[color=green]نسبه وصفته وإسلامه
هو عمر بن الخطـاب بن نُفيـل بن عبدالعُزى بن ربـاح وأمه حنتمـة بنت هشام بن المغيرة ، أسـلم فـى العـام الخامس من البعثة، وعمره سبع وعشرون سنة، بعد أربعين رجـلا، وإحدى عشرة امرأة، أسلموا قبله، وكان قبل إسلامه مـعــاديًا للإســلام شـديـدًا فـى عداوته، لكن الله شرح صدره للإسـلام استجـابـة لدعـاء النبـى صـلى الله عليه وسلم له: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب وعُرف عمر بن الخطـاب بشخصية قوية، و إرادة لا تلين، وحزم وعزم فـى الأمور، وهيبـة فـى القـلوب، وكان سفير قريش فى الجاهلية، وهى مهمة تحتاج إلى علم وعقل، وكياسة وحسن تصرف
عمـل عمر فـى بدايـة نشـأته بـالرعـى، ثم عمـل فـى التجـارة إلى الشـام وإلى اليمن، وكـان يحرص على مقابلة ذوى الشأن فى تلك البـلاد؛ ليزداد عـلمًا وخبرة بـالحياة، وكان واحدًا من سبعة عشر رجلا من قريش يعرفون القراءة والكتابة فى مكة
واشتهر عمر بن الخطـاب أنه كـان قوى البنيـة، طويـل القـامة، إذا مشـى بين النـاس أشرف عـليهم، كـأنه راكب على دابته، أبيض اللون تـعـلوه حمرة، جهورى الصوت، قـليـل الضحك، لا يمـازح أحدًا، مقبـلا
على شأنه
أمـا صفـاته الأخـلاقيـة فهـي الإحسـاس الكـامل بالمسئولية، والشدة والفراسـة، والعدل والهيبة، وواضح أن هذه الصفات هى نتاج عوامل كـثيـرة مـتنـوعــة، مثـل نشـأة عمر الأولى وثقـافته، والقيم التـى غرسهـا الإسلام فى نفسه أما إحساس عمر الكامل بمسئوليته قِبَل الرَّعيـة، فذلك مـا لاحـاجـة بنـا إلى التدليـل عليه، ويمكن إرجاعه إلى
النـزعـة الدينيـة التـى مـلكت عـليه شغـاف نفسه، و التـي شهد له بهـا الجميع، وعـلى رأسهم رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم، فالعقيدة وحدهـا هـى التـى تبـلغ بـالمرء هذا المستوى القدسـى، و هـي التـىي تجعـل الإنسـان رقيبًا عـلى نفسه فـى جميع حركـاته و سكنـاته، و لن تغنى عنها أية رقابة أخرى
عمر والرسول صلى الله عليه وسلم :
احتـل عمر بن الخطـاب منذ أن أسـلم المكـانـة التـالية لمكانة أبى بكر الصديق عند النبـى صـلى الله عـليه وسلم، لصفاته العالية التى سبق أن ذكرنـا بعضهـا، ولدعوة النبى صلى الله عليه وسلم أن يُعز الله الإسـلام بعمر بن الخطـاب، وكـانت دعوة نـاشئة عن معرفة دقيقة بخصائص الرجل الذى سيكون ثالث ثلاثة فى الإسلام قدرًا ومنزلة
وعـلى أية حال فإن أخلاق عمر وصفاته مهما تكن لم تكن لتبلغ به مـا بـلغ من المكـانـة العالية والقدر الرفيع إلا بإسلامه وبصلته برسول الله صـلى الله عـليه وسـلم، الذى تعهده بـالتربية والرعاية، وأفسح لمواهبه أن تنطـلق إلى أفـاق عـاليـة، لتـؤدى دورهـا الخـلاق لا فـى تاريخ الإسلام فحسب، بل فى تاريخ البشرية، وليكون صاحبها واحدًا من عظمـاء الدنيـا، وقد وضعه الكـاتب الأمريكـى مايكل هارت بين الخالدين المائة فى التاريخ الإنسانى كله
ومـنذ أن أســلم عمر بن الخطـاب، وهو من أكثر الصحـابـة مـلازمـة للنبي صـلى الله عـليه وسـلم، حتـى إن الصحابة أطلقوا عليه وعلى أبى بكر الصديق: وزيرَى محمد
واشـتهر عمر دون غيره من الصحـابـة بمواقف كثيرة، كـان ينـاقش النبى صلى الله عليه وسلم فيها ويعترض عليه فى صراحة، مثل: موقفه من أسرى بدر، وصـلح الحديبيـة والصـلاة عـلى عبد الله بن أبى بن سلول رأس النفاق، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يـضيـق بـذلك، بــل يـسمع برحـابـة صدر وسعـة أفق، ويشجع عمر
وغـيره عــلى إبـداء آرائـهم دون خـوف أو وجـل، يعـلمهم بذلك حريـة
الرأى، والمشاركة فى صنع القراروكثير من تـلك الآراء التـى عـارض فيهـا النبـى صلى الله عليه وسلم نزل القرآن مـؤيدًا لهـا لفرط إخـلاصه لدينه، وشفـافيـة روحه، وقد عدَّ العـلمـاء نحو عشرين موقفًا من هذا القبيـل منها: تحريم الخمر، وضرب الحجاب على زوجات النبى صلى الله عليه وسلم
وقـد وردت أحـاديث كثيرة فـى فضـل عمر، منهـا قوله صـلى الله عليه وسلم: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه
توليه الخلافة:
أراد الصديق أبو بكر أن يختـار المسـلمون خـليفتهم بـأنفسهم دون قيد، وبإرادتهم الحرة بلا تدخل، فقال لهم وهو على فراش المرض: إنى قد نزل بى ما ترون، ولا أظننى إلا ميتًا لما بى من المرض، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتى، وحلَّ عنكم عقدتى، ورد عليكم أمركم، فـأمروا عـليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم فى حياة منى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى
لكـنهـم طــلبوا منه أن يرشح لهم من يراه أهـلا لتولى الخـلافـة بعده، وأقدر عـلى تحمل تبعاتها الجسام، فقبل ذلك، وطلب منهم مهلة حتى يـنظـر لله ولديـنه ولعـبــاده، وبـعد تـفكـير عميق، واستشـارة لكبـار
الصـحــابــة مـثــل: عـثمــان بـن عـفــان وعــلى بن أبـى طـالب و عبدالرحمن بن عوف استقر رأيه على عمر بن الخطاب
ولم يكن ترشيح كبـار الصحـابـة عمر بن الخطـاب للخلافة وتزكيتهم له، بـعد أبـى بكر غريبًا أو مفـاجـأة، فهم يعرفون قدره ومنزلته، وقد سبق أن ذكرنـا تقديم النبـى صـلى الله عـليه وسـلم أبـا بكر ليؤم الناس فى الصلاة، ورفضه أن يقوم بهذا عمر بن الخطاب، فلما تــأخـر أبـو بكر يومًا عن الصـلاة، قدَّم بـلال عمر بن الخطـاب اجتهـادًا منه ليـؤم النـاس، فلما سمع الرسول عمر يقيم الصلاة رفض ذلك، وقال أين أبو بكر؛ يأبى الله ذلك والمسلمون وعـلى الرغم من ذلك فـإن هذا التصرف التـلقائى من بلال يدل على
أن الصحـابـة كـانوا يعـلمون أن أفضل الناس بعد أبى بكر الصديق هو عمر بن الخطاب
ولم يـعتـرض عــلى تـرشـيح عـمر للخـلافـة إلا عدد قـليـل من كبـار الصحـابـة، وعـللوا ذلك بغـلظته وشدته، لكن أبـا بكر طمأنهم وبين لهـم أن مــا يجدونه من شدته، إنمـا هو لله وفـى الله، وإنه يشتد لأنه يـرانــى أحيـانًا لينًا، حتـى يحدث نوعًا من التعـادل، وأنه لو أفضـى الأمر - أى الخلافة - إليه لترك كثيرًا مما هو فيه
ولا يقـلل هذا الاعتراض من سداد رأى أبى بكر فى عمر، ولا من شــأن عمر نفسه، بـل يدل ذلك عـلى حريـة الرأى تجـاه الشخصيـة التـى ستلى أمر الخلافة، فلن يضير عمر أن نفرًا من ذوى الرأى لم يـؤيدوا ترشيحه، بـل يكفيه أن أغـلب الصحـابة أجمعوا على تزكيته، ورضـوا به لهذا المنصب الجـليـل، وهذا مـا تسير عـليه الآن الأمم الحرة فى اختيار حكامها، فالإجماع ليس شرطًا ضروريًا فى اختيار الحاكم
اطمـأنت نفس أبـى بكر الصديق بعد أن استشار كبار الصحابة إلى
اختيـار عمر بن الخطـاب خـليفـة من بعده، فأشرف على الناس وهو مريض، وقـال: أترضون بمن أستخلف عليكم ؟، فإنى والله ما آلوت مـن جـهد الرأى، ولا وليـت ذا قـربــة، وإنــى قد وليت عـليكم عمر بن
الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا:سمعنا وأطعنا
بايع المسلمون عمر بن الخطاب، وبذا أصبحت خلافته شرعية
وبعد الفراغ من دفن أبى بكر الصديق صعد عمر بن الخطاب منبر رسول الله صـلى الله عليه وسلم، ووقف على درجة أدنى من الدرجة التــى كــان يقف عـليهـا أبو بكر الصديق، فحمد الله وأثنـى عـليه وصـلى عـلى النبـى صـلى الله عـليه وسلم، وذكر أبا بكر -رضىالله عنه - بكـل خير، وقـال: أيهـا النـاس مـا أنا إلا رجل منكم، ولولا أنـى كرهت أن أرد أمر خـليفـة رسول الله مـا تقلدت أمركم، فأثنى المسـلمون عليه خيرًا، وزاد ثناؤهم حين رأوه يرفع بصره إلى السماء ويقول: اللهم إنى غليظ فليِّنِّى، اللهم إنى ضعيف فقونى، اللهم إنى بخيل فسخِّنى
وفـى اليوم التـالى لتوليه الخـلافة خطب خطبة أخرى، أراد أن يوضح فيهـا طريقته فـى الحكم، ويزيل ما قد علق فى نفوسهم من خوفٍ من شدته التـى صرحوا بهـا لأبـى بكر حين رشحه للخلافة، فقال: بلغنى أن النـاس هابوا شدتى وخافوا غلظتى، وقالوا: كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنـا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقـد صــارت الأمـور إليـه ؟ ومـن قـال ذلك فقد صدق إننـى كنت مع رسول الله فكنت عبده وخـادمه، وكـان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمـة، وكـان كمـا قـال الله تعالى بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، فكنت بين يديه سيفًا مسـلولا، حتـى يغمدنـى أو يدعنـى فأمضى، فلم أزل مـع رسـول الله حتـى توفـاه الله، وهو عنـى راضٍ، والحمد لله كثيرًا، وأنــا به أسعد، ثم ولى أمر المسـلمين أبو بكر، فكـان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خـادمه وعونه، أخـلط شدتى بلينه، فأكون سيفًا مسـلولا، حتـى يغمدنى أو يدعنى فأمضى، فلم أزل معه كذلك حـتــى قـبضـه الله عـزَّ وجـل، وهو عنـى راضٍ، فـالحمد لله عـلى ذلك كثيرًا، وأنـا به أسعد، ثم إنـى وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تــلك الشـدة قـد أضـعفت - أى زادت - فـارتعد بعضهم من الخوف لكنه طـمـأنهم فقـال: ولكنهـا إنمـا تكون عـلى أهـل الظـلم والتعدى عـلى المسـلمين، فـأمـا أهـل السلامة والقصد - أى الاعتدال - فأنا ألين لهم مـن بـعضـهم عـلى بعض، ولست أدع أحدًا يظـلم أحدًا أو يتعدى عـليه حـتــى أضع خده عـلى الأرض، وأضع قدمـى عـلى الخد الآخر، حتـىيـذعـن بـالحق، وإنـى بعد شدتـى تـلك أضع خدى عـلى الأرض لأهـل العفـاف وأهـل الكفـاف، ولكم عـلى أيهـا النـاس خصال أذكرها لكم، فخذونـى بهـا، لكم على ألا أجبى شيئًا من خراجكم، ولا ما أفاء الله عـليكم إلا من وجهه، ولكم عـلى إذا وقع فـى يدى ألا يخرج منـى إلا فــى حـقه، ولكـم عــلى أن أزيـد عطـايـاكم وأرزاقكم إن شـاء الله- تعالى - وأسد ثغوركم، ولكم على ألا ألقيكم فى المهالك، وإذا غبتم فــى البـعوث فـأنـا أبو العيـال - أى يرعـاهم - فـاتقوا الله عبـاد الله وأعينونـى على أنفسكم بكفها عنى، وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
الفتوحات فى عهد عمر بن الخطاب:
مواصلة فتح العراق:
بعد أن رحل خالد بن الوليد من العراق إلى الشام؛ ليتولى قيادة الجيوش فـى اليرموك؛ تنمَّر الفرس بـالمثنى بن حارثة خليفة خالد عـلى قيادة الجيش فى العراق وبدءوا فى الضغط عليه، فطلب مددًامن أبى بكر، الذى كان مشغولا بحرب الروم
فـلمـا تـأخر رد الصديق أبى بكر على المثنى جاء بنفسه ليعرف سبب ذلك، فوجد الخـليفـة عـلى فراش المرض، فـلم يستطع أن يكلمه، ولمـا عـلم بذلك الخـليفة أدرك أن المثنى لم يأت إلا لضرورة، فكان أخـر كــلامـه لعـمر بـن الخـطـاب أن أوصـاه بتجهيز جيش، يرسـله مع المـثنــى إلى العراق، لصد عدوان الفرس، فعمـل عمر بوصيـة أبـى بكر، وأرسـل جيشًا عـلى الفور إلى العراق بقيـادة أبى عبيد بن مسعود الثقفى
موقعة الجسر:
وفـى شهر شعبان من سنة 13هـ خاض أبو عبيد بن مسعود معركة ضـد الفـرس سميت بموقعـة الجسر، لأن المسـلمين أقـاموا جسرًا عـلى نهر الفرات لعبور قواتهم البـالغة تسعة آلاف جندى، وكان عبورهم النـهر خـطــأ عـسكـريًا جسيمًا وقع فيه أبو عبيد، ولم يستمع إلى نـصيـحــة قـادة جيشه ومنهم المثنـى بن حـارثـة، الذين نبهوه إلى خـطورة ذلك، وأن مـوقـف المـسـلمين غربـى النهر أفضـل وضع لهم، وليتركوا قوات الفرس تعبر إليهم، فـإذا انتصروا كـان عبور النهر إلى الشـرق أمـرًا سـهــلا، وإذا انهزموا كـانت الصحراء وراءهم يتراجعون فـيهــا، ليـعيـدوا تـرتيب أوضـاعهم، لكن أبـا عبيد لم يستجب لهم، فحـلت الهزيمـة بـالمسـلمين عـلى يد القائد الفارسى بهمن جاذويه، وقُتل أبو عبيد نفسه، واستشهد أربعة آلاف مسلم
موقعة البويب:
بـذل المـثنـى بن حـارثـة جهدًا كبيرًا فـى تـأمين عبور من بقـى من قوات المسـلمين إلى الناحية الأخرى، وأدرك أنه لابد من خوض معركة أخـرى مـع الفـرس، حـتـى لا تـؤثر الهزيمـة فـى معنويـات المسـلمين،
وبخـاصـة أنهـا كـانت أول مرة يهزمون فيهـا فى هذه الجبهة منذ أن بدأت الفتوحات
اسـتدرج المـثنــى بـن حــارثـة قوات الفرس للعبور إلى غرب النهر، فـعبـروا إليـه مدفوعين بنشوة النصر السـابق، وظنوا أن تحقيق نصر آخر سيكون أمرًا سهـلا، لكن المثنـى فاجأهم بعد أن استثار حمية العـرب القــاطنين فـى المنطقـة، وأوقع بـالفرس هزيمـة كبيرة، عـلى حافة نهر يُسمى البويب الذى سميت المعركة باسمه
وعـلى الرغم من هذا النصر الذى أعـاد به المثنـى الثقة إلى قواته، فــإنـه أدرك بـعد طـول تـجربـة أنه لن يستطيع بمن معه من قوات أن يواجه الفرس الذين ألقوا بثقـلهم كله فى الميدان، فتراجع إلى الخلف، ليكون بمأمن من هجمات الفرس، وأرسل إلى عمر يخبره بحقيقة الموقف
معركة القادسية :
لمـا وصـلت إلى عمر بن الخطـاب تقـارير المثنـى عن الوضع فى جـبهــة العـراق عـزم عــلى الخـروج بـنفسه عـلى رأس جيش كبير، لينسـى الفرس وسـاوس الشيطـان كمـا أنسـى خالد بن الوليد الروم
تلك الوساوس، لكن الصحابة لم يوافقوه على رأيه، ورأوا أن الأفضل أن يـبقـى هو فـى المدينـة يدير أمور الدولة، ويشرف عـلى تجهيز الجـيوش، ويـختــار واحـدًا لقيـادة الحرب ضد الفرس، فقبـل نصيحتهم، وقال لهم: أشيروا على، فأشاروا عليه بسعد بن أبى وقاص، وقالوا عنه: هو الأسد فـى عرينه، فـاستدعـى سعدًا وأمَّره عـلى الجيش، فاتجه به سعد إلى العراق حيث عسكر فى القادسية
وقـبـل نشوب المعركـة أرسـل سعد وفدًا إلى بـلاط فـارس، ليعرض الإسـلام عـلى يزدجرد الثـالث أخر مـلوكهم، فـإذا قبله فسيتركونه مـلكًا عـلى بلاده، كما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم باذان مـلكًا عـلى اليمن، وإذا رفض الدخول فى الإسلام، فلن يكرهه عليه أحد، ولكن لابد من دفع الجزيـة دليـلا عـلى عدم المقاومة، فإذا امتنع عـن دفعهـا، حـاربوه، لأن رفضه دفع الجزيـة يعنـى عزمه عـلى حرب المسلمين، ومنعهم بالقوة من تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس
سـمع يـزدجرد هذا الكـلام، فـأخذه العجب، وعـلته الدهشـة؛ لأنه لم يـتعود سمـاع مثـل هذا الكـلام من هـؤلاء النـاس، فخـاطب رئيس الوفد قـائـلا: إنـى لا أعلم أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذات
بين منكم، قد كنـا نوكل بكم قرى الضواحى -الحدود- فيكفونناكم، لا تغزون فـارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم وإن كـان الجهد - الجوع - دعـاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفُق بكم
فـقــام زعـيم الوفـد ورد عــلى المــلك الذى كـان لا يزال يتحدث بروح السيـادة، ومنطق الاستعـلاء، قـائلا: إن ماقلته عنا صحيح قبل بعث النبـى صـلى الله عـليه وسـلم، الذى قذف الله فى قلوبنا التصديق له واتبـاعه، فصـار فيمـا بيننـا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، ومـا أمرنـا فهو أمر الله وقـال: من تـابعكم على هذا فله مالكم وعـليه مـا عـليكم، ومن أبـى فـاعرضوا عـليه الجزيـة، ثم امنعوه ممـا تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه
رفـض المــلك هذا العرض فـى كبريـاء وصـلف، ثقـة منه بقدرة جيوشه بقيـادة رستم عـلى سحق هـؤلاء العرب، وعاد الوفد إلى سعد بن أبى وقاص وقصوا عليه ما حدث، فاستعد هو للمعركة الحاسمة
وفـى القـادسيـة دارت رحـى الحرب بين الفريقين، واستمرت ثـلاثـة أيـام ونصف اليوم الرابع، وأسفرت عن نصر حاسم للمسلمين، وهزيمة مـنكـرة للفـرس، وقـتــل قــائدهم رستم، وتشتيت من نجـا منهم من القتل
وتُعد معركـة القـادسيـة من المعـارك الفـاصـلة فـى التـاريخ؛ لأنهـا حسمت أمر العراق العربـى نهائيا، وأخرجته من السيطرة الفارسية التى دامت قرونًا، وأعادته إلى أهله العرب المسلمين
فتح المدائن :
انـفتـح الطريق أمـام المسـلمين بعد انتصـارهم فـى القـادسيـة إلى المدائن عـاصمـة الفرس، فعبر سعد نهر دجـلة من أضيق مكان فـيه بـنصـيحــة سـلمـان الفـارسـى، ودخـل المدائن؛ ليجد المـلك الفارسى قد فرَّ منها، وكان قبل أيام قليلة يهدد المسلمين ويتوعدهم من قصره الأبيض، مقر مـلك الأكاسرة، الذى كان آية من آيات الفخامة والبهاء
وفـى ذلك القصر صـلى سعد ابن أبـى وقاص صلاة الشكر لله على هـذا الفـتح العـظيـم وتـلا فـى خشوع قول الله تعـالى]: كم تركوا من جنـات وعيون وزروع ومقـام كريم ونعمـة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثنـاهـا قومًا آخرين فمـا بكت عـليهم السمـاء والأرض ومـا كانوا منظرين [الدخان: 25 -29
أرســل سـعد إلى عـمر بـن الخطـاب رسولا يبشره بـالنصر وبمـا حـازوه من غنـائم، ويطـلب منه السمـاح لهم بمواصـلة الفتح فـى بـلاد فــارس، لكـن عمر رفض ذلك، وقـال له: وددت لو أن بيننـا وبينهم سدًا من نـار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، حسبنا من الأرض السواد - أى أرض العراق- إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال
معركة نهاوند :
اعـتقـد عـمر بـن الخـطــاب أن الفـرس سـيجـنحـون إلى السـلام بعد هزيمتهم فـى القـادسيـة، واسترداد المسلمين العراق وهى أرض عربيـة، لكن الحوادث كثيرًا ماتكون أقوى من الرجال، وتدفعهم دفعًا إلى تعديـل سياساتهم، فقد وردت الأنباء إلى عمر أن الفرس التفوا حول ملكهم الذى هرب من المدائن، واحتشدوا فى جموع هائلة فى نهاوندتصل إلى نحو مائتى ألف جندى بقيادة الفيرزان وكـانت سيـاسـة عمر بن الخطاب أن يقف بالفتوحات الإسلامية عند حدود العراق والشـام، ولايتعداها، حيث قبائل العرب التى نزحت مـن شبه الجزيرة العربيـة وأقـامت هنـاك، أمـا مـا وراء ذلك من أرض الفرس والروم فـلم يكن للمسـلمين مطمع فـى غزوه وفتحه، ولكن ليس كـل مـا يتمنـاه المرء يدركه، فقد حمـلت حوادث الفتوحـات وتطوراتها عمر بن الخطاب على تعديل سياسته تجاه الفرس والروم
ولمــا وصــلت أخـبــار اسـتعـداد الفـرس جـمع عمر كبـار الصحـابـة واستشـارهم فـى كيفيـة مواجهـة هذا الموقف، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس قبـل أن ينقضوا عـلى المسـلمين فـى بلادهم، فعمل
بـمشـورتهم، وجهز جيشًا قوامه نحو أربعين ألف مجـاهد تحت قيـادة النعمان بن مقرن
ودارت مـعركــة نـهــاوند، وانتهت بنصر عظيم للمسـلمين، وهزيمـة ســاحـقــة للفـرس، وقـد سمـى المـؤرخون المسـلمون هذ النصر فتح الفـتوح، لأن الفـرس قـد تـفرقـت كــلمـتهـم، وانفرط عقد دولتهم بهذا النصر
الانسياح فى بلاد فارس:
كـانت معركـة نهـاوند من المعارك الفاصلة فى التاريخ، فقد أزالت نهـائيًا الإمبراطوريـة الفـارسية بعد معركتى القادسية ونهاوند، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك
وبعد نهـاوند عقد عمر بن الخطاب العزم على القضاء تمامًا على التهديد الفـارسـى للدولة الإسـلامية ودعوتها، فأعد تسعة جيوش فى وقـت واحـد، لفتح جميع المقـاطعـات الفـارسيـة، من خراسـان فـى أقصـى الشمـال الشرقـى إلى إقـليم فـارس فـى الجنوب الغربـى، ومـن أذربـيجــان فـى الشمـال الغربـى إلى مكران فـى الجنوب الشرقـى، وفـى خـلال سنـة 22هـ كـانت تـلك المقـاطعات كلها تحت السيـادة الإسلامية، ولم يجبر المسلمون أحدًا من سكانها على الدخول فـى الإسـلام، وإنمـا قبـلوا منهم الجزيـة، وأعطوهم معاهدات، ضمنوا
لهم بمقتضاها حرية العبادة، وحفظوا لهم أنفسهم وأموالهم
وبدأ تـاريخ جديد لبـلاد فارس، ذاقت فيه طعم الحرية والعدل؛ وعرفت معنى المساواة، وتحررت من استبداد الأكاسرة وظلمهم
استكمال فتح الشام:
بعد تولى عمر بن الخطـاب الخلافة عزل خالد بن الوليد من قيادة جيوش الشـام، وأعـاد أبـا عبيدة بن الجراح إليهـا، وجعل خالداً تحت قيـادته، وقد قبـل القـائد البطل هذا التعديل دون تذمر، لأنه كان جنديًا يعمـل للإسـلام لا لمجده الشخصـى، وإذا كـان قد احتـل المكـان الأعـلى بين قـادة الفتوحـات ببطولاته وانتصـاراته، فإنه اعتلى ذروة أعلى بقبوله العزل، وضرب أروع الأمثلة فى الانضباط والطاعة، وتلك أهم صفات القادة العظام
وكـانت تعـليمـات عمر لأبى عبيدة بعد اليرموك، أن تعود الأمور إلى مـا كـانت عليه من قبل فى مطلع فتح الشام، حين رتب ذلك أبو بـكر الصـديـق، فـيسـير أبـو عـبيـدة ومعه خـالد بن الوليد إلىحـمص، ويـزيـد بـن أبـى سفيـان إلى دمشق، وشرحبيـل بن حـسنـة إلى الأردن، وعمرو بن العـاص إلى فـلسطين، وكـل قـائد يكون أميرًا عـلى منطقته التـى يفتحها، على أن يكون ذلك بعد أن يشتركوا جميعًا فى فتح دمشق
وبـعد أن نـجح القــادة جـميـعهـم فـى فتح دمشق وأعطوا أهـلهـا معاهدة صلح بقى يزيد بن أبى سفيان أميرًا عليها، فى حين اتجه القـادة البـاقون إلى منـاطقهم، وفـى خلال عامين فقط تم فتح الشام كله
وفـى سنـة 15 هـ جـاء عمر ابن الخطـاب إلى فلسطين؛ ليتسلم مفـاتيح بيت المقدس من البطريرك صفرونيوس، وأعطـى معاهدة لأهـلهـا هـى آية فى التسامح والعدل، أمنهم على عقائدهم وأموالهم وأنـفسـهم، وأخـذت مـنهـم نـظيـر ذلك الجـزيــة لرفـضهم الدخول فـى الإسلام
وقد رفض عمر بن الخطـاب أن يصـلى فـى كنيسة القيامة، معللا ذلك بـخوفه أن يـأتـى من المسـلمين من يقول: لقد صـلى عمر فـى الكنيسة فهى من حقنا، وهذا ظلم للمعاهدين لا يقره عمر
فتح مصر:
بـعد فـتح بـيت المـقدس اتـجه عـمر إلى الشـمـــال، وعـقد فـــى الجـابيـة جنوبـى دمشق مـؤتمرًا حضره جميع القـادة المسـلمين، نـاقش فيه مـا تم إنجازه والترتيبات اللازمة لإدارة البلاد المفتوحة إدارة حـسنــة، والعـمـل عـلى إشـاعـة العدل والحريـة بين النـاس بعد الظـلم والاستبداد والاستعباد الذى ذاقوه من الروم
وفــى هذا المـؤتمر عرض عمرو بن العـاص والى فـلسطين عـلى عـمر بـن الخطـاب ضرورة فتح مصر، لأن فـلول قوات الروم فـى الشــام لجــأت إلى مـصر التـى كـانت فـى ذلك الوقت تحت حكم الروم، كمـا لجـأ الأطربون قـائد قواتهم فى فلسطين إلى مصر؛ ليستعد من جديد للانقضـاض على المسلمين فى الشام، ولذا فإن بقاء مصر فـى أيدى الروم سيكون خطرًا عـلى فتوحـات المسـلمين فـى الشام، بل قد يصل الخطر إلى شبه الجزيرة العربية نفسها
ولمــا اقـتنع عمر بن الخطـاب بمـا أبداه عمرو بن العـاص أذن له بــالسير إلى مصر لفتحهـا، فخرج فـى أربعـة آلاف جندى، ودخـل العـريـش دون قتـال، ثم توجه إلى الفرمـا مدينـة قديمـة شرقـى بـور سـعيـد ففتحهـا بعد معـارك يسيرة مع حـاميتهـا الروميـة، ثم تـوجه إلى بـلبيس فـى محـافظـة الشرقيـة الحـاليـة، فهزم جيشًا رومـيــا كـان يقوده الأطربون، ثم هزم الروم مرة أخرى فـى عين شمس
ولمـا تجمعت قوات الروم كـلها فى حصن بابليون بالقرب من مصر القـديـمــة الحـاليـة؛ طـلب عمرو مددًا من الخـليفـة عمر، فـأمده بثمـانيـة آلاف جندى، مكنته من فتح الحصن والاستيـلاء عليه، ثم اتجه إلى الإسكندرية ففتحها، وأرسل فرقة من قواته لفتح الفيوم
وفـى نحو عـامين 19 - 21هـ فتُحت مصر بـأكملها، وكان فتحًا سـهـلا ويسيرًا، لأن القبط لم يشتركوا فـى معـارك ضد المسـلمين، بـل ساعدوهم وقدموا لهم يد العون، فدلوهم على أيسر الطرق، وأمدوهم بــالطـعــام، تـخــلُصًا من حكم الروم الذين اضطهدوهم دينيـا، مع أنهم مسيحيون مثلهم، وأرهقوهم بالضرائب، واستغلوهم أبشع استغلال
ولمـا تعامل أهل مصر مع الفاتحين المسلمين أدركوا أن ما سمعوه كـان حقيقـة، فقد منحوهم الحرية الدينية الكاملة، وأعادوا بطريركهم بـنيــامـين إلى كـنيـسته بـالإسكندريـة، وكـان الروم قد نفوه إلى وادى النـطرون، و قـد حـفظ الرجــل هـذا العـمــل الجـليـل لعمرو بن العاص، فعاونه كثيرًا فى إدارة مصر إدارة حسنة
وقد أتـاح الفتح الإسـلامـى لمصر جوا من الحريـة والتسامح لم تشهده البـلاد منذ زمن بعيد، بنص المعـاهدة التى أعطاها عمرو بن العاص لأهــل مـصر: بـسم الله الرحـمن الرحـيم، هـذا مـا أعطـى عمرو بن العـاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصـلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شىء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب - أهل النوبة - وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عـليهم، ومن أبـى واختـار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، على ما فـى هذا الكتـاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمة المؤمنين
وقد عمـل المسـلمون بوصيـة رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم التى أوصــاهـم فـيهـا بـأهـل مصر خيرًا عندمـا يفتحوهـا؛ لأن لهم ذمـة ورحمًا، كمـا نصحهم أن يتخذوا منهـا جندًا كثيفًا، فـأجنـادها من خير
أجناد الأرض، لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة
عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية فى عهد عمر:
فى خلال السنوات العشر التى تولى عمر فيها الخلافة 13 - 23هـ امتدت حدود الدولة الإسـلاميـة من ولايـة برقـة - فـى ليبيا حاليًا -غربًا إلى نهر جيحون شرقًا، ومن بحر قزوين فـى الشمـال إلى المحيط الهندى فى الجنوب
وقـد حــار المــؤرخـون فــى تـفسـير نجـاح هذه الفتوحـات، وتعـليـل أسـبـابهـا، فقد أذهـلهم أن العرب الذين كـانوا قبـل دخولهم الإسـلام قـليـلى الشـأن، لا حول لهم ولا قوة، ولا يـأبه بهم أحد ولا يحسب لهم حـســاب، هـم فــى سـنوات قــليــلة ينجحون فـى إزالة الإمبراطوريـة الفـارسيـة كـلهـا، وهـى التـى وقفت ندًا للإغريق والرومـان نحو ألف سنـة، وفـى فتح الشام، ومصر وهما أعظم ولايات الدولة البيزنطية وأكـثرهـا غنـى فـى الشرق بعد إنزال هزائم قـاسيـة بجيوشهـا فـى اليرموك وغيرها
وسـبب حـيرة هــؤلاء المــؤرخين أنهم يربطون عـادة بين الانتصـارات والهـزائم فـى الحروب، وبين أعداد الجيوش المتحـاربـة ومـا معهـا من عدة وأسـلحـة، ولمـا كـان المسـلمون أقـل عددًا وعتـادًا عـلى نحو لا
يقـارن بمـا كـان عند الفرس والروم، راحوا يبحثون عن أسبـاب أخرى غير قضية العدد والأسلحة، وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى
ذهب بعضهم إلى القول بـأن المسـلمين واجهوا دولتـى الفرس والروم، وهمـا فـى حالة ضعف وانهيار بعد الحروب الطويلة التى دامت بينهما، وانتصروا عـليهما بسهولة وفى وقت قصير غير أن هذا التفسير بعيد عن الواقع ومخـالف للحقيقـة، فـالمعـارك التـى دارت فى القادسية ونـهــاونـد و اليرموك لا تـؤيد هذا التعـليـل؛ لأنهـا كـانت معـارك كبيرة، ولم تكن جيوش الفرس والروم فيها ضعيفة، وهى لم تهزم أمام المـســلمـين لضـعف قوتهـا المـاديـة من الرجـال والأسـلحـة، ولكن لأن مـعنويـات أفرادهـا كـانت منحطـة إلى أبعد الحدود، فـى حين كـانت معنويـات المسـلمين عـالية، ويعرفون الهدف الذى يحاربون من أجله، وكان الموت أحب إليهم من الحياة وهذا هو السبب الرئيسى فى انتصاراتهم الذى نسيه الكتاب الغربيون أو تـنــاسـوه، فـمنـبع هـذه القوة وسبب هذا الانقـلاب العظيم الذى لا يـوجد له مثيـل فـى التـاريخ أن العرب أصبحوا بفضـل رسـالة الإسـلام أصـحـاب دين ورسـالة، فبعثوا بعثًا جديدًا، وخُلقوا من جديد، وعـلموا أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا النـاس من الظـلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عـدل الإســلام، وعـرفـوا أن الله قـد ضـمن لهـم النـصر ووعدهم الفـتح، فـوثقوا بنصر الله ووعد رسوله، واستهـانوا بـالقـلة والكثرة، واستخفوا بالمخاوف والأخطار
وفــى ذلك قــال المــؤرخـون: لمـا أقبـل خـالد بن الوليد من العراق، ليتولى قيـادة الجيوش فـى الشـام لحرب الروم، قـال رجل من نصارى العرب أمامه: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فنهره خالد، وقال له: ويحك بـل قـل: ما أكثر المسلمين وأقل الروم إن الجيوش تكثر بالنصر وتقل بالهزيمة لا بعدد الرجال
وهذه الحقيقـة عرفهـا أعداؤهم حتـى إن هرقـل لمـا انتهـى إليه خبر زحف المسلمين وانتصاراتهم، قال وكان عندئذٍ موجودًا فى حمص: ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قبل لأحد بهم، فأطيعونى وصالحوهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم
نتائج الفتوحات الإسلامية وآثارها على العالم:
لقـد ترتب عـلى الفتوحـات الإسـلاميـة نتـائج وآثـار بعيدة المدى فـى تــاريـخ العــالم،وإذا مــا قورنت بغيرهـا - مثـل فتوحـات الإسكندر قـبـلهـا، وفتوحـات #المغول# بعدهـا - فـإن تـلك المقـارنـة تظهر عظمـة المـســلمـين، وأن فتوحـاتهم كـانت أكثر الفتوحـات فـى العـالم خيرًا وبركـة، ففتوحـات الإسكندر وامبراطوريته التى شادها فى الشرق انـهـارت وتمزقت أوصـالهـا بعد وفـاته مبـاشرة، وأصبحت ذكرى من ذكريـات التـاريخ، أمـا غزوات المغول التـى لم يعرف لها تاريخ العالم مـثيــلا مـن قـبــل فـى همجيتهـا ووحشيتهـا، فقد دمرت معظم العـالم الإسـلامـى فـى الشرق بمـا كـان فيه من حضـارة مزدهرة، ولم يوقف زحفهـا المدمر سوى الجيش المصرى فـى معركـة عين جـالوت سنة 658هـ
وهذه الغزوات المغوليـة البربريـة كـان يمكن أن ينسـاهـا التـاريخ أو يذكرهـا بـاعتبـارها عملا بربريا ألم بالإنسانية فى مسيرتها الطويلة، لولا أن الله - تـعــالى - أدرك بـرحمته الواسعـة هذه الجموع الوحشيـة وهداهـا إلى دينه، فـأسـلم أغـلب المغول، وأظلهم الإسلام بحضارته، وحـولهـم من قوة مدمرة إلى طـاقـة خيرة، ومن أعداء مهـاجمين إلى أتباع مدافعين، بل مشاركين فى صنع الحضارة الإسلامية والخـلاصـة أن كـل أرض وصـلت إليهـا الفتوحات الإسلامية انتشر فيها الإسـلام بحريـة تـامـة، ودون إكراه، وانتشرت اللغـة العربيـة والثقافةالإسـلاميـة، ولم يتراجع الإسـلام عن أيـة منطقـة من العـالم وصل إليها سـوى الأنـدلس وكــان تـراجعه لأسبـاب تعود إلى المسـلمين لا إلى الإســلام وعـندمـا تراجع فـى الأندلس، امتد فـى منـاطق أخرى فـى جـنوب شـرق آسـيــا وفــى أوربــا وإفـريقيـا بدون حرب أو معـارك، بـل عن طريق الدعـاة والتجـار المسلمين، مما يدحض كلام من يـقول إن الإســلام انـتشـر بـحد السيف كمـا يردد أعداء الإسـلام فـى كتاباتهم
عمر وإدارة الدولة:
تجـلت عبقريـة عمر بن الخطـاب أعظم مـا تجلت فى ميادين الإدارة، فـقد ضـبط نـظم الدولة الإســلامـيـة، وكـانت متراميـة الأطراف، وأحكم إدارتهـا بمقدرة فـائقـة تثير الدهشـة والإعجـاب، فـى وقت كانت فيه وسائل الاتصال بطيئة تمامًا
ويـصعـب عــلى أى بــاحث أن يحيط بـالجوانب الإداريـة عند عمر بن الخطاب، ولذا سنتعرض لبعض منها
أولا: عمر واختيار الولاة
اسـتعــان عـمر بن الخطـاب برجـال يديرون شئون الولايـات البعيدة عنه، أمـا القريبة منه فكان يديرها بنفسه، وكان يقول: ما يحضرنى مـن أموركم لا ينظر فيه أحد غيرى، أمـا مـا بعد عنـى فسوف أجتهد فـى توليته أهـل الدين والصـلاح والتقوى، ثم لا أكتفى بذلك، بل لابد من متابعتهم؛ لأعرف هل يقومون بالعدل بين الناس أم لا ؟
وكـان لعمر بن الخطـاب طريقـة فـى اختيـار ولاته، فـلم يكن يستعمـل أحدًا من أهـل بيته، وقـلمـا استعمـل كبـار الصحابة على الأمصار، بل استبقـاهم معه فـى المدينـة ليعينوه فـى شئون الدولة، ويقدموا له
المشورة، ومن أهم شروط عمر فى الوالى:
- القـوة والأمــانـة: والمقصود بـالقوة قوة الدين، وقوة الإرادة والحزم فـى الأمور، ومن أقواله المـأثورة: إنـى لأتحرج أن أستعمـل الرجل وأنــا أجـد أقـوى مـنه، ولذا فـقد عـزل شـرحبيـل بن حسنـة عن الأردن، وعـميـر بـن سـعد عـن حـمص، وضـم ولايـتهـمـــا إلى مـعــاويــة بـن أبــى سـفيـان، وكـان المعزولان أسبق إسـلامًا من معـاويـة وأفضـل، فلما كلمه الناس فى ذلك قال إنه لم يعزلهما عن
سخط أو خيانة، ولكنه كان يريد رجلا أقوى من الرجل
- الهـيبـة مع التواضع: أدرك عمر بن الخطـاب حـاجـة ولى الأمر إلى الهيبـة واحترام النـاس، حتـى يستطيع أن يقودهم، ولكن لا ينبغى لها أن تتجـاوز الحد لتصبح تسلطًا وتعاليًا، وكان يقول: أريد رجلا - أى واليًا - إذا كـان فى القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم
- الرحمـة بـالنـاس: كـان عمر يختـار للولايـة من اشتهر بالرحمة ولين الجانب وحب الخير للناس، وحين كان يولى أحدًا يكتب له كتاب تولية، ويشهد عـليه بعض الصحـابـة، ويشترط عـليه ألا يظلم أحدًا فى جسده ولا فــى مـاله، ومن وصـايـاه لعمـاله: ألا وإنـى لم أبعثكم أمراء ولاجـبــاريـن، ولكـن بـعثـتكـم أئـمـة الهدى، يهتدى بكم فـادرءوا عـلى المسـلمين حقوقهم، ولا تضربوهم فتذلوهم، ولاتغـلقوا الأبواب دونهم،
فيـأكـل قويهم ضعيفهم، ولا تستـأثروا عـليهم فتظلموهم، ولا تجهلواعليهم
ثانيًا: قواعد العمل بالنسبة إلى العمال والولاة:
لم يـكن عـمر يـقنع بحسن اختيـار الولاة وفق شروطه، وإنمـا كـان يـحدد لهـم أسـلوب العمـل، والقواعد التـى يسيرون عـليهـا، إمـا فـى صـورة خــاصـة محددة كمـا كـان يحدث فـى عهد الولايـة، وإمـ فـى توجيهـات عـامة كما فى المؤتمرات التى كان يعقدها للعمال والولاة، وبخاصة فى موسم الحج
ثالثًا: المتابعة:
فطن عمر بن الخطـاب إلى فاعلية المتابعة، وأثرها فى حسن سير الإدارة، ولذا لم يكتفِ بـالتدقيق فـى اختيار الولاة، وإنما وضع عليهم العـيون والأرصــاد، يحصون عـليهم حركـاتهم وسكنـاتهم، ويسجـلون أعمـالهم وينقلونها إلى الخليفة فور وقوعها، لأنه أدرك أن الخطأ قد يـقع بـدون قـصد، وأن الانحراف لا يبدأ كبيرًا، وأن كـل شـىء يمكن وقفه فى أوله قبل استفحاله، عملا بالحكمة الخالدة:الوقاية خير من العلاج
رابعًا: سياسة الباب المفتوح:
أدرك عمر بن الخطـاب أن آفـة الإدارة فـى كـل عصر هـى احتجاب كـبــار المـسئـوليـن عـن أصحـاب الحـاجـات فتضيع مصـالح النـاس أو تـتعـطــل، ولذا لم يكن يتهـاون مع أى أمير أو والٍ يسمع أنه يحتجب عن النـاس مهمـا يكن شأنه، وحين بلغه أن سعد بن أبى وقاص قد بنـى بيتًا فـى الكوفة من طابقين، وسماه الناس قصر سعد، لأن بقيـة البيوت كـانت من طـابق واحد، وأنه اتخذ لمكانه الذى يباشر منه أعمـال الولايـة بـابًا، أرسـل إليه محمد بن مسلمة الأنصارى، وكان مبعوث عمر فـى المهمات الكبيرة، وأمره أن يحرق ذلك الباب الذى يـحول بـين الأمـير وبين النـاس، وأن يقدم بسعد معه، فـلمـا قدم عـليه وبخه ولم يقبـل اعتذاره بـأن داره قريبة من السوق وأنه كان يتضايق من ارتفـاع أصوات الناس وجلبتهم، ثم رده إلى عمله بعد أن أكد عليه
ألا يعود إلى مثل هذا أبدًا
خامسًا: المؤتمرات العامة:
ابتكر عمر عقد المـؤتمرات العـامة لمناقشة أمور الدولة، حتى يتيح لأكبر عدد من المسـلمين المشـاركة فى صنع السياسة والقرار بالحوار والمشـاورة، فـاهتدى إلى استثمـار منـاسبة الحج، وتجمع الناس فى البـلد الحرام، وقرر أن يحج كـل عـام، عدا السنـة الأولى من خـلافته، وأن يـحج معه كـل ولاة الأمصـار، وهنـاك يدور النقـاش والحسـاب مع الولاة عمـا صنعوا فـى عامهم الذى مضى، وما ينوون عمله فى العام القـادم، وفوق ذلك تكون تقـارير عيونه بين يديه قبـل مجـىء الولاة، بـحيـث تـكون أمورهم كـلهـا واضحـة، ولا يستطيع أحد منهم أن ينكر شيئًا، ولمـا كـانوا يعرفون ذلك فإنهم حرصوا على أن تكون سجلات أعمـالهم نظيفـة، فـالخـليفة لا يتهاون فى حساب المقصر أو من تثبت عليه مخالفة لشرع الله
سادسًا: محاسبة الولاة والأمراء:
دأب عمر بن الخطـاب عـلى محـاسبـة كـل والٍ مقصر، أو من يشتبه أنه قصر فـى عمله، لا يمنعه من ذلك كون الوالى كبير القدر أوصاحب سـابقـة فى الإسلام، وقلما نجا والٍ من ولاته من المحاسبة، وإذا كان الجرم صغيرًا يمكن إصـلاحه؛ اكتفـى بـالتوبيخ، ورد الوالى إلى عمله كـمـا فعـل مع سعد بن أبـى وقـاص، أمـا إذا كـان الجرم كبيرًا من وجهـة نظره؛ فـإنه يأمر بعزل الأمير على الفور، ومن أشهر إجراءاته فــى هـذا المـجــال: عـزله خــالد بـن الوليد حين عـلم بـأنه أعطـى الأشـعث بـن قيس عشرة آلاف درهم، فسـاورته شكوك فـى أن من يـعطــى عـشرة آلاف مـرة واحدة لرجـل واحد، كم يكون لديه ؟ فـأمر أبــا عـبيـدة بن الجراح أمير الأمراء فـى الشـام بمحـاكمـة خـالد ومقـاسمته مـاله، فـامتثل خالد لهذا العزل كما امتثل من قبل للعزل الأول عن القيادة العامة
ولم يـكن عمر يقصد بهذا التصرف الإسـاءة إلى خـالد قط، وإنمـا كــان يريد أن يعـلم الجميع أن الإسـلام فوقهم، وليس هنـاك استثنـاء لمخالف، ولو كان قائدًا عظيمًا فى مكانة خالد
سابعًا: القدوة الحسنة:
أدرك عمر أثر القدوة فـى سيـاسة الناس، وأن عليه أن يعلم الناس بأعماله قبل أن يعلمهم بأقواله وكـثيـرًا مــا كــان يـردد للنــاس قـوله: ســأسـوكـم بـالأعمـال وليس بـالأقوال، وأن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا
وكـان عمر قدوة فـى حيـاته الخـاصة، يعيش كما يعيش عامة الناس دون تـميـز، وحـين فـرضـوا له عـطـاءً راتبًا من بيت مـال المسـلمين، ليـعول مـنه أسـرتـه قـدروا له راتبًا يمكنه من معيشـة رجـل من أوسط الناس، لا أغناهم ولا أفقرهم
وفوق ذلك هو يشـارك المسلمين ويواسيهم إذا أصابهم ضر، كما حدث فــى عــام الرمــادة المـشهور سنـة 18هـ الذى أصـاب النـاس فيه مجـاعـة شديدة فـى شبه الجزيرة العربيـة لقـلة الأمطـار، فكـان يجلب إليهم الأقوات من الأمصـار، ويـأكـل ممـا يـأكـله النـاس، حتـى سـاءت صـحتـه، فـنصحه بعض أصحـابه بـأن يحسِّن من طعـامه، ليقوى عـلى العـمـل وإنجـاز مصـالح المسـلمين، لكنه أجـاب بقوله: كيف يعنينـى
شأن الرعية إذا لم يصبنى ما أصابهم؟
ولا شك أن مـا عبر عنه الخـليفـة عمر هو مفتـاح الحكم الصالح فى كـل عصر وزمـان فيوم يحس الحـاكم بـإحسـاس شعبه فسوف يستقيم الحكم، وينصـلح حـال الرعية، ويوم ينفصل الحاكم عن شعبه، وتكون له حياته الخاصة، فحينئذٍ ينفتح باب الفساد، وقـد حـرص عـمر عــلى أن يـجعــل من أبنـائه وأهـله قدوة كذلك،
فـأخذهم بمـا أخذ به نفسه، لأنه الناس ينظرون إليهم، وكان يقول لهم إذا عزم عـلى أمر يهم المسلمين: لقد عزمت على كذا وكذا، أو نهيت النـاس عن كذا وكذا، وأقسم بـالله لو خـالفنـى أحد منكم لأضاعفن له العقوبة
بـهذه الإجـراءات حصن عمر نفسه وأولاده وكـل من يـلوذون به ضد أيـة انحرافـات أو إغراءات، فأطاعه المسلمون وأحبوه سواء أكانوا أمـراء أم مـن عــامــة النـاس، ولم يعرف التـاريخ رجـلا بعد رسول الله صــلى الله عــليـه وسـلم وأبـى بكر الصديق أطـاعه كبـار الأمراء وصـغــارهـم كمـا أطـاعوا عمر بن الخطـاب، لا لهيبته فـى عيونهم فحسب، بـل للقدوة الحسنـة فـى حيـاته وانضباطه الشديد، ولهذا كله
احتل مكانة عالية فى التاريخ الإنسانى
عدل عمر بن الخطاب:
لم ترتبط صفـة من صفـات عمر الكثيرة بـاسمه كمـا ارتبطت به صفـة العـدل، فــإذا ذُكـر عـمر ذكـر النـاس عدله، الذى كـان لا يفرِّق بين قـريـب وبـعيد، أو كبير وصغير، أو صديق وعدو، والأخبـار المتواترة
فـى ذلك أكثر من أن تحصـى، ولعـل قصته مع أبى مريم السلولى قـاتـل أخيه زيد فى معركة اليمامة أصدق مثال على تجرده فى عدله، وعدم خـلطه بين عواطفه ومسئوليـاته بـاعتبـاره حـاكمًا يُجرى العدل بين الناس
فحين قابل عمر - وهو خليفة - قاتل أخيه بعد أن أسلم، قال له: أأنت قـاتل زيد بن الخطاب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: والله لا أحبك أبدًا، فقال أبو مريم : أو تمنعنى بذلك حقا لي، قال: لا قـال: إذًا يـا أمير المـؤمنين إنمـا يـأسـى عـلى الحب النساء يريد أنه مـادام لا يظلمه الخليفة فلا يعنيه أحبه أم كرهه، لأن النساء هن اللائى
يأسفن على الحب ولا لوم عــلى عـمر فـى التعبير عن عواطفه التـى لا يمـلكهـا تجـاه قـاتـل أخيه، فقد ورد أن النبـى صـلى الله عـليه وسلم قال لوحشى قـاتـل عمه حمزة بن عبدالمطلب حين رآه بعدما أسلم: غيِّب وجهك عنـى يـا وحشى لا أراك ولكن للقصة دلالة على ضبط النفس والتجرد المطلق لعمر ابن الخطاب، فلم يحمله غضبه من قاتل أخيه على ظلمه
وامـتد عـدل عـمر ليشمـل كـل من يعيش عـلى أرض الإسـلام، سواء أكــانـوا مسـلمين أم غير مسـلمين، فحين رأى يهوديـا يتسول أحزنه ذلك وأخذ الرجـل من يده، وأعطـاه معونـة عاجلة من بيت الدقيق،
وأمر له براتب دائم من بيت مال المسلمين
إحساسه بالمسئولية:
بــلغ مـن شـدة إحـسـاس عمر بـالمسئوليـة أنه لم يكتفِ بـأن يكون مـسئـولا عـن حـيــاة البشر الذين يعيشون فـى دولته، بـل مسئولا عن البـهـائم والدواب أيضًا وذلك فـى مقولته الشهيرة: والله لو أن بغـلة عـثرت بـشط الفـرات لكـنت مـسئـولا عـنهــا أمـام الله، لمـاذا لم أعبد -أسوى - لها الطريق
وأعـمــال عـمر العـظيـمــة مـن الفـتوحــات واستكمـال بنـاء الدولة ومـؤسسـاتهـا لم تشغله عن متابعة أحوال الناس وتفقدها؛ ليقف على أوجه النقص ليتـلافـاهـا أولا بـأول، فكان كثير الطواف ليلا بالمدينة، وسمع ذات ليـلة طفلا يبكى بكاء مستمرا، فسأل عن أمره، فعرف أن أمه منعت عنه الرضـاع، لأنه لا يُفرض عطـاء من بيت المـال إلا للأطفال المـفطـومـين، فـانزعج عمر، وأصدر أوامره أن يفرض عطـاء لكـل مولود فى الإسلام، ونادى مناديه: لا تعجلوا فطام أولادكم
وحـوادث عمر التـى من هذا القبيـل كثيرة، وقد يظنهـا بعض النـاس أنهـا من المبـالغـات، ولكنهـا متواترة فـى المصـادر التى أرَّخت لعمر وعصره، فمن يصدق أن خـليفـة المسلمين يأخذ امرأته أم كلثوم بنت عـلى بن أبى طالب ومعها كل ما تحتاج إليه عملية ولادة، لمساعدة امرأة غريبـة جـاءهـا المخـاض، فيشترك هو معهـا فى الإشراف على ولادتهـا؛ وصنع الطعـام لها، ولما أنجز مهمته، قال لزوج المرأة: إذا كان الغد فأتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه
عمر والقضاء:
عندما بويع أبو بكر بالخلافة شكى لعمر من كثرة أعبائها وخوفه مـن عـدم النـهوض بـكـل مسئوليـاتهـا، فقـال له عمر: أنـا أكفيك القـضــاء وأبـو عـبيدة يكفيك الأموال، ومعنـى ذلك أن عمر كـان قاضيًا لأبى بكر
وفـى عهد عمر اتسعت الدولة، واحتـاج كل إقليم إلى قاضٍ، فعين عمر القضـاة وكـان يدقق في اختيارهم، فعين: شريح بن الحارث الكندى عـلى قضـاء الكوفـة، وأبا الدرداء على قضاء الشام، وعثمان بن قيس على قضاء مصر
ولم يـكن عمر فـى حـاجـة إلى سن قوانين للقضـاة، لأنهم يحكمون طبقًا لكتـاب الله وسنـة رسوله، ولكنه كـان فـى حـاجـة إلى تعـليمهم كيف يتصرفون حين يلتبس الأمر عليهم، وقد كتب لأحدهم يقول له: فـإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله ولم تكن فيه سنة من رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أى الأمرين شئتَ، إن شئتَ أن تجتهد رأيك وتقدِّم فتقدم، وإن شئتَ أن تأخَّر فتأخر
ومن أعظم وصـأيـاه للقضـاة وصيته لأبى موسى الأشعرى، ومما جاء فيهـا: آس - أى سوِّ بين النـاس فـى مجـلسك ووجهك – حتى لا يطمع شريف فى حيفك - ظلمك - ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على من ادعـى واليمين عـلى من أنكر، والصـلح جـائز بين المسـلمين إلا صلحًا حرَّم حلالا أو حلل حرامًا
إصلاحات عمر بن الخطاب وإنشاءاته :
لعمر بن الخطـاب كثير من الإصلاحات والإنشاءات التى لم يُسبق إليها، وسـمــاهــا مــؤرخو سيرته أوليـات عمر، فهو أول من سُمـى أمير المـؤمنين، وأول من اتخذ حادث الهجرة مبدأ التاريخ للدولة الإسلامية، بـعد أن اسـتشــار فــى ذلك كـبـار الصحـابـة، وهو أول من اتخذ بيت المال، وهو يشبه خزانة الدولة، وأول من مصَّر الأمصار، أى بنى مدنًا جديدة كـالبصرة والكوفـة فى العراق، والفسطاط - حى مصر القديمـة حـاليـا - فى مصر، وأول من وسَّع مسجد رسول الله صلى الله عــليه وسـلم، وأدخـل فيه دار العبـاس بن عبدا لمطـلب، وفرشه بــالحـصبـاء، أى الحجـارة الصغيرة، وكـانوا قبـل ذلك يصـلون عـلى التراب
وهو أول من دوَّن الدواوين، وهى تشبه الوزارات فى الوقت الحاضر، وقـد اقـتبس هذا النظـام من الفرس والروم، فـأنشـأ ديوان العطـاء، وكـان مختصًا بـالعطـاء الذى فرضه عمر للمسلمين، وأنشأ ديوان الجـند - وزارة الدفــاع حــاليًا - وديـوان الخـراج - وزارة المـاليـة - ونظام البريد الذى كان يُستخدم فى أمور الدولة
ومـن أعـظم اجـتهــاداتـه إبـقـاؤه الأرض المفتوحـة فـى أيدى أهـلهـا يـزرعـونهـا، ويدفعون خراجًا -إيجـارًا - للدولة، تنفق منه عـلى الجيش والمـرافـق العــامــة، كـمــا أمـر بـإعـادة مسح الأرض - أى قيـاسهـا واختبارها - ووضع الخراج المناسب عليها حسب جودة الأرض
هو عمر بن الخطـاب بن نُفيـل بن عبدالعُزى بن ربـاح وأمه حنتمـة بنت هشام بن المغيرة ، أسـلم فـى العـام الخامس من البعثة، وعمره سبع وعشرون سنة، بعد أربعين رجـلا، وإحدى عشرة امرأة، أسلموا قبله، وكان قبل إسلامه مـعــاديًا للإســلام شـديـدًا فـى عداوته، لكن الله شرح صدره للإسـلام استجـابـة لدعـاء النبـى صـلى الله عليه وسلم له: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب وعُرف عمر بن الخطـاب بشخصية قوية، و إرادة لا تلين، وحزم وعزم فـى الأمور، وهيبـة فـى القـلوب، وكان سفير قريش فى الجاهلية، وهى مهمة تحتاج إلى علم وعقل، وكياسة وحسن تصرف
عمـل عمر فـى بدايـة نشـأته بـالرعـى، ثم عمـل فـى التجـارة إلى الشـام وإلى اليمن، وكـان يحرص على مقابلة ذوى الشأن فى تلك البـلاد؛ ليزداد عـلمًا وخبرة بـالحياة، وكان واحدًا من سبعة عشر رجلا من قريش يعرفون القراءة والكتابة فى مكة
واشتهر عمر بن الخطـاب أنه كـان قوى البنيـة، طويـل القـامة، إذا مشـى بين النـاس أشرف عـليهم، كـأنه راكب على دابته، أبيض اللون تـعـلوه حمرة، جهورى الصوت، قـليـل الضحك، لا يمـازح أحدًا، مقبـلا
على شأنه
أمـا صفـاته الأخـلاقيـة فهـي الإحسـاس الكـامل بالمسئولية، والشدة والفراسـة، والعدل والهيبة، وواضح أن هذه الصفات هى نتاج عوامل كـثيـرة مـتنـوعــة، مثـل نشـأة عمر الأولى وثقـافته، والقيم التـى غرسهـا الإسلام فى نفسه أما إحساس عمر الكامل بمسئوليته قِبَل الرَّعيـة، فذلك مـا لاحـاجـة بنـا إلى التدليـل عليه، ويمكن إرجاعه إلى
النـزعـة الدينيـة التـى مـلكت عـليه شغـاف نفسه، و التـي شهد له بهـا الجميع، وعـلى رأسهم رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم، فالعقيدة وحدهـا هـى التـى تبـلغ بـالمرء هذا المستوى القدسـى، و هـي التـىي تجعـل الإنسـان رقيبًا عـلى نفسه فـى جميع حركـاته و سكنـاته، و لن تغنى عنها أية رقابة أخرى
عمر والرسول صلى الله عليه وسلم :
احتـل عمر بن الخطـاب منذ أن أسـلم المكـانـة التـالية لمكانة أبى بكر الصديق عند النبـى صـلى الله عـليه وسلم، لصفاته العالية التى سبق أن ذكرنـا بعضهـا، ولدعوة النبى صلى الله عليه وسلم أن يُعز الله الإسـلام بعمر بن الخطـاب، وكـانت دعوة نـاشئة عن معرفة دقيقة بخصائص الرجل الذى سيكون ثالث ثلاثة فى الإسلام قدرًا ومنزلة
وعـلى أية حال فإن أخلاق عمر وصفاته مهما تكن لم تكن لتبلغ به مـا بـلغ من المكـانـة العالية والقدر الرفيع إلا بإسلامه وبصلته برسول الله صـلى الله عـليه وسـلم، الذى تعهده بـالتربية والرعاية، وأفسح لمواهبه أن تنطـلق إلى أفـاق عـاليـة، لتـؤدى دورهـا الخـلاق لا فـى تاريخ الإسلام فحسب، بل فى تاريخ البشرية، وليكون صاحبها واحدًا من عظمـاء الدنيـا، وقد وضعه الكـاتب الأمريكـى مايكل هارت بين الخالدين المائة فى التاريخ الإنسانى كله
ومـنذ أن أســلم عمر بن الخطـاب، وهو من أكثر الصحـابـة مـلازمـة للنبي صـلى الله عـليه وسـلم، حتـى إن الصحابة أطلقوا عليه وعلى أبى بكر الصديق: وزيرَى محمد
واشـتهر عمر دون غيره من الصحـابـة بمواقف كثيرة، كـان ينـاقش النبى صلى الله عليه وسلم فيها ويعترض عليه فى صراحة، مثل: موقفه من أسرى بدر، وصـلح الحديبيـة والصـلاة عـلى عبد الله بن أبى بن سلول رأس النفاق، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يـضيـق بـذلك، بــل يـسمع برحـابـة صدر وسعـة أفق، ويشجع عمر
وغـيره عــلى إبـداء آرائـهم دون خـوف أو وجـل، يعـلمهم بذلك حريـة
الرأى، والمشاركة فى صنع القراروكثير من تـلك الآراء التـى عـارض فيهـا النبـى صلى الله عليه وسلم نزل القرآن مـؤيدًا لهـا لفرط إخـلاصه لدينه، وشفـافيـة روحه، وقد عدَّ العـلمـاء نحو عشرين موقفًا من هذا القبيـل منها: تحريم الخمر، وضرب الحجاب على زوجات النبى صلى الله عليه وسلم
وقـد وردت أحـاديث كثيرة فـى فضـل عمر، منهـا قوله صـلى الله عليه وسلم: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه
توليه الخلافة:
أراد الصديق أبو بكر أن يختـار المسـلمون خـليفتهم بـأنفسهم دون قيد، وبإرادتهم الحرة بلا تدخل، فقال لهم وهو على فراش المرض: إنى قد نزل بى ما ترون، ولا أظننى إلا ميتًا لما بى من المرض، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتى، وحلَّ عنكم عقدتى، ورد عليكم أمركم، فـأمروا عـليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم فى حياة منى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى
لكـنهـم طــلبوا منه أن يرشح لهم من يراه أهـلا لتولى الخـلافـة بعده، وأقدر عـلى تحمل تبعاتها الجسام، فقبل ذلك، وطلب منهم مهلة حتى يـنظـر لله ولديـنه ولعـبــاده، وبـعد تـفكـير عميق، واستشـارة لكبـار
الصـحــابــة مـثــل: عـثمــان بـن عـفــان وعــلى بن أبـى طـالب و عبدالرحمن بن عوف استقر رأيه على عمر بن الخطاب
ولم يكن ترشيح كبـار الصحـابـة عمر بن الخطـاب للخلافة وتزكيتهم له، بـعد أبـى بكر غريبًا أو مفـاجـأة، فهم يعرفون قدره ومنزلته، وقد سبق أن ذكرنـا تقديم النبـى صـلى الله عـليه وسـلم أبـا بكر ليؤم الناس فى الصلاة، ورفضه أن يقوم بهذا عمر بن الخطاب، فلما تــأخـر أبـو بكر يومًا عن الصـلاة، قدَّم بـلال عمر بن الخطـاب اجتهـادًا منه ليـؤم النـاس، فلما سمع الرسول عمر يقيم الصلاة رفض ذلك، وقال أين أبو بكر؛ يأبى الله ذلك والمسلمون وعـلى الرغم من ذلك فـإن هذا التصرف التـلقائى من بلال يدل على
أن الصحـابـة كـانوا يعـلمون أن أفضل الناس بعد أبى بكر الصديق هو عمر بن الخطاب
ولم يـعتـرض عــلى تـرشـيح عـمر للخـلافـة إلا عدد قـليـل من كبـار الصحـابـة، وعـللوا ذلك بغـلظته وشدته، لكن أبـا بكر طمأنهم وبين لهـم أن مــا يجدونه من شدته، إنمـا هو لله وفـى الله، وإنه يشتد لأنه يـرانــى أحيـانًا لينًا، حتـى يحدث نوعًا من التعـادل، وأنه لو أفضـى الأمر - أى الخلافة - إليه لترك كثيرًا مما هو فيه
ولا يقـلل هذا الاعتراض من سداد رأى أبى بكر فى عمر، ولا من شــأن عمر نفسه، بـل يدل ذلك عـلى حريـة الرأى تجـاه الشخصيـة التـى ستلى أمر الخلافة، فلن يضير عمر أن نفرًا من ذوى الرأى لم يـؤيدوا ترشيحه، بـل يكفيه أن أغـلب الصحـابة أجمعوا على تزكيته، ورضـوا به لهذا المنصب الجـليـل، وهذا مـا تسير عـليه الآن الأمم الحرة فى اختيار حكامها، فالإجماع ليس شرطًا ضروريًا فى اختيار الحاكم
اطمـأنت نفس أبـى بكر الصديق بعد أن استشار كبار الصحابة إلى
اختيـار عمر بن الخطـاب خـليفـة من بعده، فأشرف على الناس وهو مريض، وقـال: أترضون بمن أستخلف عليكم ؟، فإنى والله ما آلوت مـن جـهد الرأى، ولا وليـت ذا قـربــة، وإنــى قد وليت عـليكم عمر بن
الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا:سمعنا وأطعنا
بايع المسلمون عمر بن الخطاب، وبذا أصبحت خلافته شرعية
وبعد الفراغ من دفن أبى بكر الصديق صعد عمر بن الخطاب منبر رسول الله صـلى الله عليه وسلم، ووقف على درجة أدنى من الدرجة التــى كــان يقف عـليهـا أبو بكر الصديق، فحمد الله وأثنـى عـليه وصـلى عـلى النبـى صـلى الله عـليه وسلم، وذكر أبا بكر -رضىالله عنه - بكـل خير، وقـال: أيهـا النـاس مـا أنا إلا رجل منكم، ولولا أنـى كرهت أن أرد أمر خـليفـة رسول الله مـا تقلدت أمركم، فأثنى المسـلمون عليه خيرًا، وزاد ثناؤهم حين رأوه يرفع بصره إلى السماء ويقول: اللهم إنى غليظ فليِّنِّى، اللهم إنى ضعيف فقونى، اللهم إنى بخيل فسخِّنى
وفـى اليوم التـالى لتوليه الخـلافة خطب خطبة أخرى، أراد أن يوضح فيهـا طريقته فـى الحكم، ويزيل ما قد علق فى نفوسهم من خوفٍ من شدته التـى صرحوا بهـا لأبـى بكر حين رشحه للخلافة، فقال: بلغنى أن النـاس هابوا شدتى وخافوا غلظتى، وقالوا: كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنـا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقـد صــارت الأمـور إليـه ؟ ومـن قـال ذلك فقد صدق إننـى كنت مع رسول الله فكنت عبده وخـادمه، وكـان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمـة، وكـان كمـا قـال الله تعالى بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، فكنت بين يديه سيفًا مسـلولا، حتـى يغمدنـى أو يدعنـى فأمضى، فلم أزل مـع رسـول الله حتـى توفـاه الله، وهو عنـى راضٍ، والحمد لله كثيرًا، وأنــا به أسعد، ثم ولى أمر المسـلمين أبو بكر، فكـان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خـادمه وعونه، أخـلط شدتى بلينه، فأكون سيفًا مسـلولا، حتـى يغمدنى أو يدعنى فأمضى، فلم أزل معه كذلك حـتــى قـبضـه الله عـزَّ وجـل، وهو عنـى راضٍ، فـالحمد لله عـلى ذلك كثيرًا، وأنـا به أسعد، ثم إنـى وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تــلك الشـدة قـد أضـعفت - أى زادت - فـارتعد بعضهم من الخوف لكنه طـمـأنهم فقـال: ولكنهـا إنمـا تكون عـلى أهـل الظـلم والتعدى عـلى المسـلمين، فـأمـا أهـل السلامة والقصد - أى الاعتدال - فأنا ألين لهم مـن بـعضـهم عـلى بعض، ولست أدع أحدًا يظـلم أحدًا أو يتعدى عـليه حـتــى أضع خده عـلى الأرض، وأضع قدمـى عـلى الخد الآخر، حتـىيـذعـن بـالحق، وإنـى بعد شدتـى تـلك أضع خدى عـلى الأرض لأهـل العفـاف وأهـل الكفـاف، ولكم عـلى أيهـا النـاس خصال أذكرها لكم، فخذونـى بهـا، لكم على ألا أجبى شيئًا من خراجكم، ولا ما أفاء الله عـليكم إلا من وجهه، ولكم عـلى إذا وقع فـى يدى ألا يخرج منـى إلا فــى حـقه، ولكـم عــلى أن أزيـد عطـايـاكم وأرزاقكم إن شـاء الله- تعالى - وأسد ثغوركم، ولكم على ألا ألقيكم فى المهالك، وإذا غبتم فــى البـعوث فـأنـا أبو العيـال - أى يرعـاهم - فـاتقوا الله عبـاد الله وأعينونـى على أنفسكم بكفها عنى، وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
الفتوحات فى عهد عمر بن الخطاب:
مواصلة فتح العراق:
بعد أن رحل خالد بن الوليد من العراق إلى الشام؛ ليتولى قيادة الجيوش فـى اليرموك؛ تنمَّر الفرس بـالمثنى بن حارثة خليفة خالد عـلى قيادة الجيش فى العراق وبدءوا فى الضغط عليه، فطلب مددًامن أبى بكر، الذى كان مشغولا بحرب الروم
فـلمـا تـأخر رد الصديق أبى بكر على المثنى جاء بنفسه ليعرف سبب ذلك، فوجد الخـليفـة عـلى فراش المرض، فـلم يستطع أن يكلمه، ولمـا عـلم بذلك الخـليفة أدرك أن المثنى لم يأت إلا لضرورة، فكان أخـر كــلامـه لعـمر بـن الخـطـاب أن أوصـاه بتجهيز جيش، يرسـله مع المـثنــى إلى العراق، لصد عدوان الفرس، فعمـل عمر بوصيـة أبـى بكر، وأرسـل جيشًا عـلى الفور إلى العراق بقيـادة أبى عبيد بن مسعود الثقفى
موقعة الجسر:
وفـى شهر شعبان من سنة 13هـ خاض أبو عبيد بن مسعود معركة ضـد الفـرس سميت بموقعـة الجسر، لأن المسـلمين أقـاموا جسرًا عـلى نهر الفرات لعبور قواتهم البـالغة تسعة آلاف جندى، وكان عبورهم النـهر خـطــأ عـسكـريًا جسيمًا وقع فيه أبو عبيد، ولم يستمع إلى نـصيـحــة قـادة جيشه ومنهم المثنـى بن حـارثـة، الذين نبهوه إلى خـطورة ذلك، وأن مـوقـف المـسـلمين غربـى النهر أفضـل وضع لهم، وليتركوا قوات الفرس تعبر إليهم، فـإذا انتصروا كـان عبور النهر إلى الشـرق أمـرًا سـهــلا، وإذا انهزموا كـانت الصحراء وراءهم يتراجعون فـيهــا، ليـعيـدوا تـرتيب أوضـاعهم، لكن أبـا عبيد لم يستجب لهم، فحـلت الهزيمـة بـالمسـلمين عـلى يد القائد الفارسى بهمن جاذويه، وقُتل أبو عبيد نفسه، واستشهد أربعة آلاف مسلم
موقعة البويب:
بـذل المـثنـى بن حـارثـة جهدًا كبيرًا فـى تـأمين عبور من بقـى من قوات المسـلمين إلى الناحية الأخرى، وأدرك أنه لابد من خوض معركة أخـرى مـع الفـرس، حـتـى لا تـؤثر الهزيمـة فـى معنويـات المسـلمين،
وبخـاصـة أنهـا كـانت أول مرة يهزمون فيهـا فى هذه الجبهة منذ أن بدأت الفتوحات
اسـتدرج المـثنــى بـن حــارثـة قوات الفرس للعبور إلى غرب النهر، فـعبـروا إليـه مدفوعين بنشوة النصر السـابق، وظنوا أن تحقيق نصر آخر سيكون أمرًا سهـلا، لكن المثنـى فاجأهم بعد أن استثار حمية العـرب القــاطنين فـى المنطقـة، وأوقع بـالفرس هزيمـة كبيرة، عـلى حافة نهر يُسمى البويب الذى سميت المعركة باسمه
وعـلى الرغم من هذا النصر الذى أعـاد به المثنـى الثقة إلى قواته، فــإنـه أدرك بـعد طـول تـجربـة أنه لن يستطيع بمن معه من قوات أن يواجه الفرس الذين ألقوا بثقـلهم كله فى الميدان، فتراجع إلى الخلف، ليكون بمأمن من هجمات الفرس، وأرسل إلى عمر يخبره بحقيقة الموقف
معركة القادسية :
لمـا وصـلت إلى عمر بن الخطـاب تقـارير المثنـى عن الوضع فى جـبهــة العـراق عـزم عــلى الخـروج بـنفسه عـلى رأس جيش كبير، لينسـى الفرس وسـاوس الشيطـان كمـا أنسـى خالد بن الوليد الروم
تلك الوساوس، لكن الصحابة لم يوافقوه على رأيه، ورأوا أن الأفضل أن يـبقـى هو فـى المدينـة يدير أمور الدولة، ويشرف عـلى تجهيز الجـيوش، ويـختــار واحـدًا لقيـادة الحرب ضد الفرس، فقبـل نصيحتهم، وقال لهم: أشيروا على، فأشاروا عليه بسعد بن أبى وقاص، وقالوا عنه: هو الأسد فـى عرينه، فـاستدعـى سعدًا وأمَّره عـلى الجيش، فاتجه به سعد إلى العراق حيث عسكر فى القادسية
وقـبـل نشوب المعركـة أرسـل سعد وفدًا إلى بـلاط فـارس، ليعرض الإسـلام عـلى يزدجرد الثـالث أخر مـلوكهم، فـإذا قبله فسيتركونه مـلكًا عـلى بلاده، كما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم باذان مـلكًا عـلى اليمن، وإذا رفض الدخول فى الإسلام، فلن يكرهه عليه أحد، ولكن لابد من دفع الجزيـة دليـلا عـلى عدم المقاومة، فإذا امتنع عـن دفعهـا، حـاربوه، لأن رفضه دفع الجزيـة يعنـى عزمه عـلى حرب المسلمين، ومنعهم بالقوة من تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس
سـمع يـزدجرد هذا الكـلام، فـأخذه العجب، وعـلته الدهشـة؛ لأنه لم يـتعود سمـاع مثـل هذا الكـلام من هـؤلاء النـاس، فخـاطب رئيس الوفد قـائـلا: إنـى لا أعلم أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذات
بين منكم، قد كنـا نوكل بكم قرى الضواحى -الحدود- فيكفونناكم، لا تغزون فـارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم وإن كـان الجهد - الجوع - دعـاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفُق بكم
فـقــام زعـيم الوفـد ورد عــلى المــلك الذى كـان لا يزال يتحدث بروح السيـادة، ومنطق الاستعـلاء، قـائلا: إن ماقلته عنا صحيح قبل بعث النبـى صـلى الله عـليه وسـلم، الذى قذف الله فى قلوبنا التصديق له واتبـاعه، فصـار فيمـا بيننـا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، ومـا أمرنـا فهو أمر الله وقـال: من تـابعكم على هذا فله مالكم وعـليه مـا عـليكم، ومن أبـى فـاعرضوا عـليه الجزيـة، ثم امنعوه ممـا تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه
رفـض المــلك هذا العرض فـى كبريـاء وصـلف، ثقـة منه بقدرة جيوشه بقيـادة رستم عـلى سحق هـؤلاء العرب، وعاد الوفد إلى سعد بن أبى وقاص وقصوا عليه ما حدث، فاستعد هو للمعركة الحاسمة
وفـى القـادسيـة دارت رحـى الحرب بين الفريقين، واستمرت ثـلاثـة أيـام ونصف اليوم الرابع، وأسفرت عن نصر حاسم للمسلمين، وهزيمة مـنكـرة للفـرس، وقـتــل قــائدهم رستم، وتشتيت من نجـا منهم من القتل
وتُعد معركـة القـادسيـة من المعـارك الفـاصـلة فـى التـاريخ؛ لأنهـا حسمت أمر العراق العربـى نهائيا، وأخرجته من السيطرة الفارسية التى دامت قرونًا، وأعادته إلى أهله العرب المسلمين
فتح المدائن :
انـفتـح الطريق أمـام المسـلمين بعد انتصـارهم فـى القـادسيـة إلى المدائن عـاصمـة الفرس، فعبر سعد نهر دجـلة من أضيق مكان فـيه بـنصـيحــة سـلمـان الفـارسـى، ودخـل المدائن؛ ليجد المـلك الفارسى قد فرَّ منها، وكان قبل أيام قليلة يهدد المسلمين ويتوعدهم من قصره الأبيض، مقر مـلك الأكاسرة، الذى كان آية من آيات الفخامة والبهاء
وفـى ذلك القصر صـلى سعد ابن أبـى وقاص صلاة الشكر لله على هـذا الفـتح العـظيـم وتـلا فـى خشوع قول الله تعـالى]: كم تركوا من جنـات وعيون وزروع ومقـام كريم ونعمـة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثنـاهـا قومًا آخرين فمـا بكت عـليهم السمـاء والأرض ومـا كانوا منظرين [الدخان: 25 -29
أرســل سـعد إلى عـمر بـن الخطـاب رسولا يبشره بـالنصر وبمـا حـازوه من غنـائم، ويطـلب منه السمـاح لهم بمواصـلة الفتح فـى بـلاد فــارس، لكـن عمر رفض ذلك، وقـال له: وددت لو أن بيننـا وبينهم سدًا من نـار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، حسبنا من الأرض السواد - أى أرض العراق- إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال
معركة نهاوند :
اعـتقـد عـمر بـن الخـطــاب أن الفـرس سـيجـنحـون إلى السـلام بعد هزيمتهم فـى القـادسيـة، واسترداد المسلمين العراق وهى أرض عربيـة، لكن الحوادث كثيرًا ماتكون أقوى من الرجال، وتدفعهم دفعًا إلى تعديـل سياساتهم، فقد وردت الأنباء إلى عمر أن الفرس التفوا حول ملكهم الذى هرب من المدائن، واحتشدوا فى جموع هائلة فى نهاوندتصل إلى نحو مائتى ألف جندى بقيادة الفيرزان وكـانت سيـاسـة عمر بن الخطاب أن يقف بالفتوحات الإسلامية عند حدود العراق والشـام، ولايتعداها، حيث قبائل العرب التى نزحت مـن شبه الجزيرة العربيـة وأقـامت هنـاك، أمـا مـا وراء ذلك من أرض الفرس والروم فـلم يكن للمسـلمين مطمع فـى غزوه وفتحه، ولكن ليس كـل مـا يتمنـاه المرء يدركه، فقد حمـلت حوادث الفتوحـات وتطوراتها عمر بن الخطاب على تعديل سياسته تجاه الفرس والروم
ولمــا وصــلت أخـبــار اسـتعـداد الفـرس جـمع عمر كبـار الصحـابـة واستشـارهم فـى كيفيـة مواجهـة هذا الموقف، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس قبـل أن ينقضوا عـلى المسـلمين فـى بلادهم، فعمل
بـمشـورتهم، وجهز جيشًا قوامه نحو أربعين ألف مجـاهد تحت قيـادة النعمان بن مقرن
ودارت مـعركــة نـهــاوند، وانتهت بنصر عظيم للمسـلمين، وهزيمـة ســاحـقــة للفـرس، وقـد سمـى المـؤرخون المسـلمون هذ النصر فتح الفـتوح، لأن الفـرس قـد تـفرقـت كــلمـتهـم، وانفرط عقد دولتهم بهذا النصر
الانسياح فى بلاد فارس:
كـانت معركـة نهـاوند من المعارك الفاصلة فى التاريخ، فقد أزالت نهـائيًا الإمبراطوريـة الفـارسية بعد معركتى القادسية ونهاوند، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك
وبعد نهـاوند عقد عمر بن الخطاب العزم على القضاء تمامًا على التهديد الفـارسـى للدولة الإسـلامية ودعوتها، فأعد تسعة جيوش فى وقـت واحـد، لفتح جميع المقـاطعـات الفـارسيـة، من خراسـان فـى أقصـى الشمـال الشرقـى إلى إقـليم فـارس فـى الجنوب الغربـى، ومـن أذربـيجــان فـى الشمـال الغربـى إلى مكران فـى الجنوب الشرقـى، وفـى خـلال سنـة 22هـ كـانت تـلك المقـاطعات كلها تحت السيـادة الإسلامية، ولم يجبر المسلمون أحدًا من سكانها على الدخول فـى الإسـلام، وإنمـا قبـلوا منهم الجزيـة، وأعطوهم معاهدات، ضمنوا
لهم بمقتضاها حرية العبادة، وحفظوا لهم أنفسهم وأموالهم
وبدأ تـاريخ جديد لبـلاد فارس، ذاقت فيه طعم الحرية والعدل؛ وعرفت معنى المساواة، وتحررت من استبداد الأكاسرة وظلمهم
استكمال فتح الشام:
بعد تولى عمر بن الخطـاب الخلافة عزل خالد بن الوليد من قيادة جيوش الشـام، وأعـاد أبـا عبيدة بن الجراح إليهـا، وجعل خالداً تحت قيـادته، وقد قبـل القـائد البطل هذا التعديل دون تذمر، لأنه كان جنديًا يعمـل للإسـلام لا لمجده الشخصـى، وإذا كـان قد احتـل المكـان الأعـلى بين قـادة الفتوحـات ببطولاته وانتصـاراته، فإنه اعتلى ذروة أعلى بقبوله العزل، وضرب أروع الأمثلة فى الانضباط والطاعة، وتلك أهم صفات القادة العظام
وكـانت تعـليمـات عمر لأبى عبيدة بعد اليرموك، أن تعود الأمور إلى مـا كـانت عليه من قبل فى مطلع فتح الشام، حين رتب ذلك أبو بـكر الصـديـق، فـيسـير أبـو عـبيـدة ومعه خـالد بن الوليد إلىحـمص، ويـزيـد بـن أبـى سفيـان إلى دمشق، وشرحبيـل بن حـسنـة إلى الأردن، وعمرو بن العـاص إلى فـلسطين، وكـل قـائد يكون أميرًا عـلى منطقته التـى يفتحها، على أن يكون ذلك بعد أن يشتركوا جميعًا فى فتح دمشق
وبـعد أن نـجح القــادة جـميـعهـم فـى فتح دمشق وأعطوا أهـلهـا معاهدة صلح بقى يزيد بن أبى سفيان أميرًا عليها، فى حين اتجه القـادة البـاقون إلى منـاطقهم، وفـى خلال عامين فقط تم فتح الشام كله
وفـى سنـة 15 هـ جـاء عمر ابن الخطـاب إلى فلسطين؛ ليتسلم مفـاتيح بيت المقدس من البطريرك صفرونيوس، وأعطـى معاهدة لأهـلهـا هـى آية فى التسامح والعدل، أمنهم على عقائدهم وأموالهم وأنـفسـهم، وأخـذت مـنهـم نـظيـر ذلك الجـزيــة لرفـضهم الدخول فـى الإسلام
وقد رفض عمر بن الخطـاب أن يصـلى فـى كنيسة القيامة، معللا ذلك بـخوفه أن يـأتـى من المسـلمين من يقول: لقد صـلى عمر فـى الكنيسة فهى من حقنا، وهذا ظلم للمعاهدين لا يقره عمر
فتح مصر:
بـعد فـتح بـيت المـقدس اتـجه عـمر إلى الشـمـــال، وعـقد فـــى الجـابيـة جنوبـى دمشق مـؤتمرًا حضره جميع القـادة المسـلمين، نـاقش فيه مـا تم إنجازه والترتيبات اللازمة لإدارة البلاد المفتوحة إدارة حـسنــة، والعـمـل عـلى إشـاعـة العدل والحريـة بين النـاس بعد الظـلم والاستبداد والاستعباد الذى ذاقوه من الروم
وفــى هذا المـؤتمر عرض عمرو بن العـاص والى فـلسطين عـلى عـمر بـن الخطـاب ضرورة فتح مصر، لأن فـلول قوات الروم فـى الشــام لجــأت إلى مـصر التـى كـانت فـى ذلك الوقت تحت حكم الروم، كمـا لجـأ الأطربون قـائد قواتهم فى فلسطين إلى مصر؛ ليستعد من جديد للانقضـاض على المسلمين فى الشام، ولذا فإن بقاء مصر فـى أيدى الروم سيكون خطرًا عـلى فتوحـات المسـلمين فـى الشام، بل قد يصل الخطر إلى شبه الجزيرة العربية نفسها
ولمــا اقـتنع عمر بن الخطـاب بمـا أبداه عمرو بن العـاص أذن له بــالسير إلى مصر لفتحهـا، فخرج فـى أربعـة آلاف جندى، ودخـل العـريـش دون قتـال، ثم توجه إلى الفرمـا مدينـة قديمـة شرقـى بـور سـعيـد ففتحهـا بعد معـارك يسيرة مع حـاميتهـا الروميـة، ثم تـوجه إلى بـلبيس فـى محـافظـة الشرقيـة الحـاليـة، فهزم جيشًا رومـيــا كـان يقوده الأطربون، ثم هزم الروم مرة أخرى فـى عين شمس
ولمـا تجمعت قوات الروم كـلها فى حصن بابليون بالقرب من مصر القـديـمــة الحـاليـة؛ طـلب عمرو مددًا من الخـليفـة عمر، فـأمده بثمـانيـة آلاف جندى، مكنته من فتح الحصن والاستيـلاء عليه، ثم اتجه إلى الإسكندرية ففتحها، وأرسل فرقة من قواته لفتح الفيوم
وفـى نحو عـامين 19 - 21هـ فتُحت مصر بـأكملها، وكان فتحًا سـهـلا ويسيرًا، لأن القبط لم يشتركوا فـى معـارك ضد المسـلمين، بـل ساعدوهم وقدموا لهم يد العون، فدلوهم على أيسر الطرق، وأمدوهم بــالطـعــام، تـخــلُصًا من حكم الروم الذين اضطهدوهم دينيـا، مع أنهم مسيحيون مثلهم، وأرهقوهم بالضرائب، واستغلوهم أبشع استغلال
ولمـا تعامل أهل مصر مع الفاتحين المسلمين أدركوا أن ما سمعوه كـان حقيقـة، فقد منحوهم الحرية الدينية الكاملة، وأعادوا بطريركهم بـنيــامـين إلى كـنيـسته بـالإسكندريـة، وكـان الروم قد نفوه إلى وادى النـطرون، و قـد حـفظ الرجــل هـذا العـمــل الجـليـل لعمرو بن العاص، فعاونه كثيرًا فى إدارة مصر إدارة حسنة
وقد أتـاح الفتح الإسـلامـى لمصر جوا من الحريـة والتسامح لم تشهده البـلاد منذ زمن بعيد، بنص المعـاهدة التى أعطاها عمرو بن العاص لأهــل مـصر: بـسم الله الرحـمن الرحـيم، هـذا مـا أعطـى عمرو بن العـاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصـلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شىء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب - أهل النوبة - وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عـليهم، ومن أبـى واختـار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، على ما فـى هذا الكتـاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمة المؤمنين
وقد عمـل المسـلمون بوصيـة رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم التى أوصــاهـم فـيهـا بـأهـل مصر خيرًا عندمـا يفتحوهـا؛ لأن لهم ذمـة ورحمًا، كمـا نصحهم أن يتخذوا منهـا جندًا كثيفًا، فـأجنـادها من خير
أجناد الأرض، لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة
عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية فى عهد عمر:
فى خلال السنوات العشر التى تولى عمر فيها الخلافة 13 - 23هـ امتدت حدود الدولة الإسـلاميـة من ولايـة برقـة - فـى ليبيا حاليًا -غربًا إلى نهر جيحون شرقًا، ومن بحر قزوين فـى الشمـال إلى المحيط الهندى فى الجنوب
وقـد حــار المــؤرخـون فــى تـفسـير نجـاح هذه الفتوحـات، وتعـليـل أسـبـابهـا، فقد أذهـلهم أن العرب الذين كـانوا قبـل دخولهم الإسـلام قـليـلى الشـأن، لا حول لهم ولا قوة، ولا يـأبه بهم أحد ولا يحسب لهم حـســاب، هـم فــى سـنوات قــليــلة ينجحون فـى إزالة الإمبراطوريـة الفـارسيـة كـلهـا، وهـى التـى وقفت ندًا للإغريق والرومـان نحو ألف سنـة، وفـى فتح الشام، ومصر وهما أعظم ولايات الدولة البيزنطية وأكـثرهـا غنـى فـى الشرق بعد إنزال هزائم قـاسيـة بجيوشهـا فـى اليرموك وغيرها
وسـبب حـيرة هــؤلاء المــؤرخين أنهم يربطون عـادة بين الانتصـارات والهـزائم فـى الحروب، وبين أعداد الجيوش المتحـاربـة ومـا معهـا من عدة وأسـلحـة، ولمـا كـان المسـلمون أقـل عددًا وعتـادًا عـلى نحو لا
يقـارن بمـا كـان عند الفرس والروم، راحوا يبحثون عن أسبـاب أخرى غير قضية العدد والأسلحة، وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى
ذهب بعضهم إلى القول بـأن المسـلمين واجهوا دولتـى الفرس والروم، وهمـا فـى حالة ضعف وانهيار بعد الحروب الطويلة التى دامت بينهما، وانتصروا عـليهما بسهولة وفى وقت قصير غير أن هذا التفسير بعيد عن الواقع ومخـالف للحقيقـة، فـالمعـارك التـى دارت فى القادسية ونـهــاونـد و اليرموك لا تـؤيد هذا التعـليـل؛ لأنهـا كـانت معـارك كبيرة، ولم تكن جيوش الفرس والروم فيها ضعيفة، وهى لم تهزم أمام المـســلمـين لضـعف قوتهـا المـاديـة من الرجـال والأسـلحـة، ولكن لأن مـعنويـات أفرادهـا كـانت منحطـة إلى أبعد الحدود، فـى حين كـانت معنويـات المسـلمين عـالية، ويعرفون الهدف الذى يحاربون من أجله، وكان الموت أحب إليهم من الحياة وهذا هو السبب الرئيسى فى انتصاراتهم الذى نسيه الكتاب الغربيون أو تـنــاسـوه، فـمنـبع هـذه القوة وسبب هذا الانقـلاب العظيم الذى لا يـوجد له مثيـل فـى التـاريخ أن العرب أصبحوا بفضـل رسـالة الإسـلام أصـحـاب دين ورسـالة، فبعثوا بعثًا جديدًا، وخُلقوا من جديد، وعـلموا أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا النـاس من الظـلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عـدل الإســلام، وعـرفـوا أن الله قـد ضـمن لهـم النـصر ووعدهم الفـتح، فـوثقوا بنصر الله ووعد رسوله، واستهـانوا بـالقـلة والكثرة، واستخفوا بالمخاوف والأخطار
وفــى ذلك قــال المــؤرخـون: لمـا أقبـل خـالد بن الوليد من العراق، ليتولى قيـادة الجيوش فـى الشـام لحرب الروم، قـال رجل من نصارى العرب أمامه: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فنهره خالد، وقال له: ويحك بـل قـل: ما أكثر المسلمين وأقل الروم إن الجيوش تكثر بالنصر وتقل بالهزيمة لا بعدد الرجال
وهذه الحقيقـة عرفهـا أعداؤهم حتـى إن هرقـل لمـا انتهـى إليه خبر زحف المسلمين وانتصاراتهم، قال وكان عندئذٍ موجودًا فى حمص: ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قبل لأحد بهم، فأطيعونى وصالحوهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم
نتائج الفتوحات الإسلامية وآثارها على العالم:
لقـد ترتب عـلى الفتوحـات الإسـلاميـة نتـائج وآثـار بعيدة المدى فـى تــاريـخ العــالم،وإذا مــا قورنت بغيرهـا - مثـل فتوحـات الإسكندر قـبـلهـا، وفتوحـات #المغول# بعدهـا - فـإن تـلك المقـارنـة تظهر عظمـة المـســلمـين، وأن فتوحـاتهم كـانت أكثر الفتوحـات فـى العـالم خيرًا وبركـة، ففتوحـات الإسكندر وامبراطوريته التى شادها فى الشرق انـهـارت وتمزقت أوصـالهـا بعد وفـاته مبـاشرة، وأصبحت ذكرى من ذكريـات التـاريخ، أمـا غزوات المغول التـى لم يعرف لها تاريخ العالم مـثيــلا مـن قـبــل فـى همجيتهـا ووحشيتهـا، فقد دمرت معظم العـالم الإسـلامـى فـى الشرق بمـا كـان فيه من حضـارة مزدهرة، ولم يوقف زحفهـا المدمر سوى الجيش المصرى فـى معركـة عين جـالوت سنة 658هـ
وهذه الغزوات المغوليـة البربريـة كـان يمكن أن ينسـاهـا التـاريخ أو يذكرهـا بـاعتبـارها عملا بربريا ألم بالإنسانية فى مسيرتها الطويلة، لولا أن الله - تـعــالى - أدرك بـرحمته الواسعـة هذه الجموع الوحشيـة وهداهـا إلى دينه، فـأسـلم أغـلب المغول، وأظلهم الإسلام بحضارته، وحـولهـم من قوة مدمرة إلى طـاقـة خيرة، ومن أعداء مهـاجمين إلى أتباع مدافعين، بل مشاركين فى صنع الحضارة الإسلامية والخـلاصـة أن كـل أرض وصـلت إليهـا الفتوحات الإسلامية انتشر فيها الإسـلام بحريـة تـامـة، ودون إكراه، وانتشرت اللغـة العربيـة والثقافةالإسـلاميـة، ولم يتراجع الإسـلام عن أيـة منطقـة من العـالم وصل إليها سـوى الأنـدلس وكــان تـراجعه لأسبـاب تعود إلى المسـلمين لا إلى الإســلام وعـندمـا تراجع فـى الأندلس، امتد فـى منـاطق أخرى فـى جـنوب شـرق آسـيــا وفــى أوربــا وإفـريقيـا بدون حرب أو معـارك، بـل عن طريق الدعـاة والتجـار المسلمين، مما يدحض كلام من يـقول إن الإســلام انـتشـر بـحد السيف كمـا يردد أعداء الإسـلام فـى كتاباتهم
عمر وإدارة الدولة:
تجـلت عبقريـة عمر بن الخطـاب أعظم مـا تجلت فى ميادين الإدارة، فـقد ضـبط نـظم الدولة الإســلامـيـة، وكـانت متراميـة الأطراف، وأحكم إدارتهـا بمقدرة فـائقـة تثير الدهشـة والإعجـاب، فـى وقت كانت فيه وسائل الاتصال بطيئة تمامًا
ويـصعـب عــلى أى بــاحث أن يحيط بـالجوانب الإداريـة عند عمر بن الخطاب، ولذا سنتعرض لبعض منها
أولا: عمر واختيار الولاة
اسـتعــان عـمر بن الخطـاب برجـال يديرون شئون الولايـات البعيدة عنه، أمـا القريبة منه فكان يديرها بنفسه، وكان يقول: ما يحضرنى مـن أموركم لا ينظر فيه أحد غيرى، أمـا مـا بعد عنـى فسوف أجتهد فـى توليته أهـل الدين والصـلاح والتقوى، ثم لا أكتفى بذلك، بل لابد من متابعتهم؛ لأعرف هل يقومون بالعدل بين الناس أم لا ؟
وكـان لعمر بن الخطـاب طريقـة فـى اختيـار ولاته، فـلم يكن يستعمـل أحدًا من أهـل بيته، وقـلمـا استعمـل كبـار الصحابة على الأمصار، بل استبقـاهم معه فـى المدينـة ليعينوه فـى شئون الدولة، ويقدموا له
المشورة، ومن أهم شروط عمر فى الوالى:
- القـوة والأمــانـة: والمقصود بـالقوة قوة الدين، وقوة الإرادة والحزم فـى الأمور، ومن أقواله المـأثورة: إنـى لأتحرج أن أستعمـل الرجل وأنــا أجـد أقـوى مـنه، ولذا فـقد عـزل شـرحبيـل بن حسنـة عن الأردن، وعـميـر بـن سـعد عـن حـمص، وضـم ولايـتهـمـــا إلى مـعــاويــة بـن أبــى سـفيـان، وكـان المعزولان أسبق إسـلامًا من معـاويـة وأفضـل، فلما كلمه الناس فى ذلك قال إنه لم يعزلهما عن
سخط أو خيانة، ولكنه كان يريد رجلا أقوى من الرجل
- الهـيبـة مع التواضع: أدرك عمر بن الخطـاب حـاجـة ولى الأمر إلى الهيبـة واحترام النـاس، حتـى يستطيع أن يقودهم، ولكن لا ينبغى لها أن تتجـاوز الحد لتصبح تسلطًا وتعاليًا، وكان يقول: أريد رجلا - أى واليًا - إذا كـان فى القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم
- الرحمـة بـالنـاس: كـان عمر يختـار للولايـة من اشتهر بالرحمة ولين الجانب وحب الخير للناس، وحين كان يولى أحدًا يكتب له كتاب تولية، ويشهد عـليه بعض الصحـابـة، ويشترط عـليه ألا يظلم أحدًا فى جسده ولا فــى مـاله، ومن وصـايـاه لعمـاله: ألا وإنـى لم أبعثكم أمراء ولاجـبــاريـن، ولكـن بـعثـتكـم أئـمـة الهدى، يهتدى بكم فـادرءوا عـلى المسـلمين حقوقهم، ولا تضربوهم فتذلوهم، ولاتغـلقوا الأبواب دونهم،
فيـأكـل قويهم ضعيفهم، ولا تستـأثروا عـليهم فتظلموهم، ولا تجهلواعليهم
ثانيًا: قواعد العمل بالنسبة إلى العمال والولاة:
لم يـكن عـمر يـقنع بحسن اختيـار الولاة وفق شروطه، وإنمـا كـان يـحدد لهـم أسـلوب العمـل، والقواعد التـى يسيرون عـليهـا، إمـا فـى صـورة خــاصـة محددة كمـا كـان يحدث فـى عهد الولايـة، وإمـ فـى توجيهـات عـامة كما فى المؤتمرات التى كان يعقدها للعمال والولاة، وبخاصة فى موسم الحج
ثالثًا: المتابعة:
فطن عمر بن الخطـاب إلى فاعلية المتابعة، وأثرها فى حسن سير الإدارة، ولذا لم يكتفِ بـالتدقيق فـى اختيار الولاة، وإنما وضع عليهم العـيون والأرصــاد، يحصون عـليهم حركـاتهم وسكنـاتهم، ويسجـلون أعمـالهم وينقلونها إلى الخليفة فور وقوعها، لأنه أدرك أن الخطأ قد يـقع بـدون قـصد، وأن الانحراف لا يبدأ كبيرًا، وأن كـل شـىء يمكن وقفه فى أوله قبل استفحاله، عملا بالحكمة الخالدة:الوقاية خير من العلاج
رابعًا: سياسة الباب المفتوح:
أدرك عمر بن الخطـاب أن آفـة الإدارة فـى كـل عصر هـى احتجاب كـبــار المـسئـوليـن عـن أصحـاب الحـاجـات فتضيع مصـالح النـاس أو تـتعـطــل، ولذا لم يكن يتهـاون مع أى أمير أو والٍ يسمع أنه يحتجب عن النـاس مهمـا يكن شأنه، وحين بلغه أن سعد بن أبى وقاص قد بنـى بيتًا فـى الكوفة من طابقين، وسماه الناس قصر سعد، لأن بقيـة البيوت كـانت من طـابق واحد، وأنه اتخذ لمكانه الذى يباشر منه أعمـال الولايـة بـابًا، أرسـل إليه محمد بن مسلمة الأنصارى، وكان مبعوث عمر فـى المهمات الكبيرة، وأمره أن يحرق ذلك الباب الذى يـحول بـين الأمـير وبين النـاس، وأن يقدم بسعد معه، فـلمـا قدم عـليه وبخه ولم يقبـل اعتذاره بـأن داره قريبة من السوق وأنه كان يتضايق من ارتفـاع أصوات الناس وجلبتهم، ثم رده إلى عمله بعد أن أكد عليه
ألا يعود إلى مثل هذا أبدًا
خامسًا: المؤتمرات العامة:
ابتكر عمر عقد المـؤتمرات العـامة لمناقشة أمور الدولة، حتى يتيح لأكبر عدد من المسـلمين المشـاركة فى صنع السياسة والقرار بالحوار والمشـاورة، فـاهتدى إلى استثمـار منـاسبة الحج، وتجمع الناس فى البـلد الحرام، وقرر أن يحج كـل عـام، عدا السنـة الأولى من خـلافته، وأن يـحج معه كـل ولاة الأمصـار، وهنـاك يدور النقـاش والحسـاب مع الولاة عمـا صنعوا فـى عامهم الذى مضى، وما ينوون عمله فى العام القـادم، وفوق ذلك تكون تقـارير عيونه بين يديه قبـل مجـىء الولاة، بـحيـث تـكون أمورهم كـلهـا واضحـة، ولا يستطيع أحد منهم أن ينكر شيئًا، ولمـا كـانوا يعرفون ذلك فإنهم حرصوا على أن تكون سجلات أعمـالهم نظيفـة، فـالخـليفة لا يتهاون فى حساب المقصر أو من تثبت عليه مخالفة لشرع الله
سادسًا: محاسبة الولاة والأمراء:
دأب عمر بن الخطـاب عـلى محـاسبـة كـل والٍ مقصر، أو من يشتبه أنه قصر فـى عمله، لا يمنعه من ذلك كون الوالى كبير القدر أوصاحب سـابقـة فى الإسلام، وقلما نجا والٍ من ولاته من المحاسبة، وإذا كان الجرم صغيرًا يمكن إصـلاحه؛ اكتفـى بـالتوبيخ، ورد الوالى إلى عمله كـمـا فعـل مع سعد بن أبـى وقـاص، أمـا إذا كـان الجرم كبيرًا من وجهـة نظره؛ فـإنه يأمر بعزل الأمير على الفور، ومن أشهر إجراءاته فــى هـذا المـجــال: عـزله خــالد بـن الوليد حين عـلم بـأنه أعطـى الأشـعث بـن قيس عشرة آلاف درهم، فسـاورته شكوك فـى أن من يـعطــى عـشرة آلاف مـرة واحدة لرجـل واحد، كم يكون لديه ؟ فـأمر أبــا عـبيـدة بن الجراح أمير الأمراء فـى الشـام بمحـاكمـة خـالد ومقـاسمته مـاله، فـامتثل خالد لهذا العزل كما امتثل من قبل للعزل الأول عن القيادة العامة
ولم يـكن عمر يقصد بهذا التصرف الإسـاءة إلى خـالد قط، وإنمـا كــان يريد أن يعـلم الجميع أن الإسـلام فوقهم، وليس هنـاك استثنـاء لمخالف، ولو كان قائدًا عظيمًا فى مكانة خالد
سابعًا: القدوة الحسنة:
أدرك عمر أثر القدوة فـى سيـاسة الناس، وأن عليه أن يعلم الناس بأعماله قبل أن يعلمهم بأقواله وكـثيـرًا مــا كــان يـردد للنــاس قـوله: ســأسـوكـم بـالأعمـال وليس بـالأقوال، وأن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا
وكـان عمر قدوة فـى حيـاته الخـاصة، يعيش كما يعيش عامة الناس دون تـميـز، وحـين فـرضـوا له عـطـاءً راتبًا من بيت مـال المسـلمين، ليـعول مـنه أسـرتـه قـدروا له راتبًا يمكنه من معيشـة رجـل من أوسط الناس، لا أغناهم ولا أفقرهم
وفوق ذلك هو يشـارك المسلمين ويواسيهم إذا أصابهم ضر، كما حدث فــى عــام الرمــادة المـشهور سنـة 18هـ الذى أصـاب النـاس فيه مجـاعـة شديدة فـى شبه الجزيرة العربيـة لقـلة الأمطـار، فكـان يجلب إليهم الأقوات من الأمصـار، ويـأكـل ممـا يـأكـله النـاس، حتـى سـاءت صـحتـه، فـنصحه بعض أصحـابه بـأن يحسِّن من طعـامه، ليقوى عـلى العـمـل وإنجـاز مصـالح المسـلمين، لكنه أجـاب بقوله: كيف يعنينـى
شأن الرعية إذا لم يصبنى ما أصابهم؟
ولا شك أن مـا عبر عنه الخـليفـة عمر هو مفتـاح الحكم الصالح فى كـل عصر وزمـان فيوم يحس الحـاكم بـإحسـاس شعبه فسوف يستقيم الحكم، وينصـلح حـال الرعية، ويوم ينفصل الحاكم عن شعبه، وتكون له حياته الخاصة، فحينئذٍ ينفتح باب الفساد، وقـد حـرص عـمر عــلى أن يـجعــل من أبنـائه وأهـله قدوة كذلك،
فـأخذهم بمـا أخذ به نفسه، لأنه الناس ينظرون إليهم، وكان يقول لهم إذا عزم عـلى أمر يهم المسلمين: لقد عزمت على كذا وكذا، أو نهيت النـاس عن كذا وكذا، وأقسم بـالله لو خـالفنـى أحد منكم لأضاعفن له العقوبة
بـهذه الإجـراءات حصن عمر نفسه وأولاده وكـل من يـلوذون به ضد أيـة انحرافـات أو إغراءات، فأطاعه المسلمون وأحبوه سواء أكانوا أمـراء أم مـن عــامــة النـاس، ولم يعرف التـاريخ رجـلا بعد رسول الله صــلى الله عــليـه وسـلم وأبـى بكر الصديق أطـاعه كبـار الأمراء وصـغــارهـم كمـا أطـاعوا عمر بن الخطـاب، لا لهيبته فـى عيونهم فحسب، بـل للقدوة الحسنـة فـى حيـاته وانضباطه الشديد، ولهذا كله
احتل مكانة عالية فى التاريخ الإنسانى
عدل عمر بن الخطاب:
لم ترتبط صفـة من صفـات عمر الكثيرة بـاسمه كمـا ارتبطت به صفـة العـدل، فــإذا ذُكـر عـمر ذكـر النـاس عدله، الذى كـان لا يفرِّق بين قـريـب وبـعيد، أو كبير وصغير، أو صديق وعدو، والأخبـار المتواترة
فـى ذلك أكثر من أن تحصـى، ولعـل قصته مع أبى مريم السلولى قـاتـل أخيه زيد فى معركة اليمامة أصدق مثال على تجرده فى عدله، وعدم خـلطه بين عواطفه ومسئوليـاته بـاعتبـاره حـاكمًا يُجرى العدل بين الناس
فحين قابل عمر - وهو خليفة - قاتل أخيه بعد أن أسلم، قال له: أأنت قـاتل زيد بن الخطاب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: والله لا أحبك أبدًا، فقال أبو مريم : أو تمنعنى بذلك حقا لي، قال: لا قـال: إذًا يـا أمير المـؤمنين إنمـا يـأسـى عـلى الحب النساء يريد أنه مـادام لا يظلمه الخليفة فلا يعنيه أحبه أم كرهه، لأن النساء هن اللائى
يأسفن على الحب ولا لوم عــلى عـمر فـى التعبير عن عواطفه التـى لا يمـلكهـا تجـاه قـاتـل أخيه، فقد ورد أن النبـى صـلى الله عـليه وسلم قال لوحشى قـاتـل عمه حمزة بن عبدالمطلب حين رآه بعدما أسلم: غيِّب وجهك عنـى يـا وحشى لا أراك ولكن للقصة دلالة على ضبط النفس والتجرد المطلق لعمر ابن الخطاب، فلم يحمله غضبه من قاتل أخيه على ظلمه
وامـتد عـدل عـمر ليشمـل كـل من يعيش عـلى أرض الإسـلام، سواء أكــانـوا مسـلمين أم غير مسـلمين، فحين رأى يهوديـا يتسول أحزنه ذلك وأخذ الرجـل من يده، وأعطـاه معونـة عاجلة من بيت الدقيق،
وأمر له براتب دائم من بيت مال المسلمين
إحساسه بالمسئولية:
بــلغ مـن شـدة إحـسـاس عمر بـالمسئوليـة أنه لم يكتفِ بـأن يكون مـسئـولا عـن حـيــاة البشر الذين يعيشون فـى دولته، بـل مسئولا عن البـهـائم والدواب أيضًا وذلك فـى مقولته الشهيرة: والله لو أن بغـلة عـثرت بـشط الفـرات لكـنت مـسئـولا عـنهــا أمـام الله، لمـاذا لم أعبد -أسوى - لها الطريق
وأعـمــال عـمر العـظيـمــة مـن الفـتوحــات واستكمـال بنـاء الدولة ومـؤسسـاتهـا لم تشغله عن متابعة أحوال الناس وتفقدها؛ ليقف على أوجه النقص ليتـلافـاهـا أولا بـأول، فكان كثير الطواف ليلا بالمدينة، وسمع ذات ليـلة طفلا يبكى بكاء مستمرا، فسأل عن أمره، فعرف أن أمه منعت عنه الرضـاع، لأنه لا يُفرض عطـاء من بيت المـال إلا للأطفال المـفطـومـين، فـانزعج عمر، وأصدر أوامره أن يفرض عطـاء لكـل مولود فى الإسلام، ونادى مناديه: لا تعجلوا فطام أولادكم
وحـوادث عمر التـى من هذا القبيـل كثيرة، وقد يظنهـا بعض النـاس أنهـا من المبـالغـات، ولكنهـا متواترة فـى المصـادر التى أرَّخت لعمر وعصره، فمن يصدق أن خـليفـة المسلمين يأخذ امرأته أم كلثوم بنت عـلى بن أبى طالب ومعها كل ما تحتاج إليه عملية ولادة، لمساعدة امرأة غريبـة جـاءهـا المخـاض، فيشترك هو معهـا فى الإشراف على ولادتهـا؛ وصنع الطعـام لها، ولما أنجز مهمته، قال لزوج المرأة: إذا كان الغد فأتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه
عمر والقضاء:
عندما بويع أبو بكر بالخلافة شكى لعمر من كثرة أعبائها وخوفه مـن عـدم النـهوض بـكـل مسئوليـاتهـا، فقـال له عمر: أنـا أكفيك القـضــاء وأبـو عـبيدة يكفيك الأموال، ومعنـى ذلك أن عمر كـان قاضيًا لأبى بكر
وفـى عهد عمر اتسعت الدولة، واحتـاج كل إقليم إلى قاضٍ، فعين عمر القضـاة وكـان يدقق في اختيارهم، فعين: شريح بن الحارث الكندى عـلى قضـاء الكوفـة، وأبا الدرداء على قضاء الشام، وعثمان بن قيس على قضاء مصر
ولم يـكن عمر فـى حـاجـة إلى سن قوانين للقضـاة، لأنهم يحكمون طبقًا لكتـاب الله وسنـة رسوله، ولكنه كـان فـى حـاجـة إلى تعـليمهم كيف يتصرفون حين يلتبس الأمر عليهم، وقد كتب لأحدهم يقول له: فـإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله ولم تكن فيه سنة من رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أى الأمرين شئتَ، إن شئتَ أن تجتهد رأيك وتقدِّم فتقدم، وإن شئتَ أن تأخَّر فتأخر
ومن أعظم وصـأيـاه للقضـاة وصيته لأبى موسى الأشعرى، ومما جاء فيهـا: آس - أى سوِّ بين النـاس فـى مجـلسك ووجهك – حتى لا يطمع شريف فى حيفك - ظلمك - ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على من ادعـى واليمين عـلى من أنكر، والصـلح جـائز بين المسـلمين إلا صلحًا حرَّم حلالا أو حلل حرامًا
إصلاحات عمر بن الخطاب وإنشاءاته :
لعمر بن الخطـاب كثير من الإصلاحات والإنشاءات التى لم يُسبق إليها، وسـمــاهــا مــؤرخو سيرته أوليـات عمر، فهو أول من سُمـى أمير المـؤمنين، وأول من اتخذ حادث الهجرة مبدأ التاريخ للدولة الإسلامية، بـعد أن اسـتشــار فــى ذلك كـبـار الصحـابـة، وهو أول من اتخذ بيت المال، وهو يشبه خزانة الدولة، وأول من مصَّر الأمصار، أى بنى مدنًا جديدة كـالبصرة والكوفـة فى العراق، والفسطاط - حى مصر القديمـة حـاليـا - فى مصر، وأول من وسَّع مسجد رسول الله صلى الله عــليه وسـلم، وأدخـل فيه دار العبـاس بن عبدا لمطـلب، وفرشه بــالحـصبـاء، أى الحجـارة الصغيرة، وكـانوا قبـل ذلك يصـلون عـلى التراب
وهو أول من دوَّن الدواوين، وهى تشبه الوزارات فى الوقت الحاضر، وقـد اقـتبس هذا النظـام من الفرس والروم، فـأنشـأ ديوان العطـاء، وكـان مختصًا بـالعطـاء الذى فرضه عمر للمسلمين، وأنشأ ديوان الجـند - وزارة الدفــاع حــاليًا - وديـوان الخـراج - وزارة المـاليـة - ونظام البريد الذى كان يُستخدم فى أمور الدولة
ومـن أعـظم اجـتهــاداتـه إبـقـاؤه الأرض المفتوحـة فـى أيدى أهـلهـا يـزرعـونهـا، ويدفعون خراجًا -إيجـارًا - للدولة، تنفق منه عـلى الجيش والمـرافـق العــامــة، كـمــا أمـر بـإعـادة مسح الأرض - أى قيـاسهـا واختبارها - ووضع الخراج المناسب عليها حسب جودة الأرض
الإثنين نوفمبر 21, 2016 3:30 pm من طرف الربيع
» سونيت 95....وليم شكسبير
الخميس ديسمبر 10, 2015 6:51 am من طرف الربيع
» كيف تزيد خشوعك في الصلاة؟
الإثنين أكتوبر 19, 2015 2:38 pm من طرف semal4
» حزن المؤمن ...
الجمعة أغسطس 22, 2014 11:10 pm من طرف الربيع
» ارجوك تنساني { احلام }
السبت مارس 15, 2014 8:32 am من طرف لمار
» المكالمة .... هشام الجخ ♥
الخميس مارس 13, 2014 9:54 am من طرف الربيع
» الليل ياليلى " وديع الصافي "
الثلاثاء فبراير 11, 2014 1:59 am من طرف لمار
» جمعة مباركه ان شاء الله
الإثنين فبراير 10, 2014 2:03 pm من طرف لمار
» (((((((مجرد وقت )))))
الأحد فبراير 09, 2014 11:13 pm من طرف لمار