نسبه
هو عثمـان بن عفـان بن أبـى العـاص بن أميـة بن عبد شمس بن عبد منـاف، ولِد بعد عام الفيل بست سنوات 576م، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعـة بن حبيب بن عبد شمس،فعثمـان يلتقى فى نسبه من جهة أمه وأبيه مع النبيصلى الله عليه وسلم فى عبد مناف
صفاته
كـان ربعـة من الرجـال، ليس بـالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه أبيض مشربًا بحمرة، غزير الشعر يكسو ذراعيه شعر طويـل، طويـل اللحيـة، ومن أحسن الناس ثغرًا
أخلاقه
أجـمعـت المصـادر التـى أرخت له عـلى وصفه بسمـاحـة النفس، ورقـة المشـاعر، وكـان رضـى الخـلق، كريمًا، شديد الحيـاء، صوَّامًا قوَّامًا، محبوبًا من الناس فى جاهليته وإسلامه
وتـحدث هـو عـن نفسه فقـال: لقد اختبـأت لى عند ربـى عشرًا، إنـى لرابع أربعـة فـى الإسـلام، ولقد ائتمننـى رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم عـلى ابنته - رقيـة - ثم توفيت، فزوجنـى الأخرى - أم كـلثوم - ووالله مـا سرقت ولا زنيت فـى جـاهـليـة ولا إسلام قط ولا تغنيت، ولا تـمنيت ولا مسحت فرجـى بيمينـى منذ بـايعت رسول الله، ولقد جمعت القرآن عـلى عهد رسول الله، ولا مرت بـى جمعـة منذ أسـلمت إلا وأنا أعتق فيهـا رقبـة، فـإن لم أجد فيهـا رقبـة أعتقت فـى التـى تـليهـا رقبتين
إسلامه
أسـلم عثمـان مبكرًا، وكـان الذى دعـاه إلى الإسـلام هو أبو بكر الصديق، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يـديـه بعد إسـلام أبـى بكر مبـاشرة، ولذا كـان يقول: إنـى لرابع أربعـة فـى الإسـلام بعد أبـى بكر وخديجـة وزيد بن حـارثـة، وحرص عثمان على إسلامه أشد الحرص، على الرغم من الضغوط التى تعرض لهـا، فعندمـا عـلم عمه الحكم بن أبى العاص بإسلامه أوثقه بــالحـبـال، وقـال له: ترغب عن دين آبـائك إلى دين محدث؟ والله لا أدعك حتـى تدع مـا أنت فيه فـأجـابه عثمان: والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه
مصاهرته للرسول صلى الله عليه وسلم
تزوج عثمـان بن عفان من ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوج رقيـة، وظـلت معه حتـى تُوفيت يوم انتصـار المسـلمين فـى غزوة بدر، ولهذا لم يحضر عثمـان بدرًا، لأن الرسول صلى الله عـليه وسـلم أمره بـالبقاء معها لتمريضها، وقد عده النبي صلى الله عــليـه وســلم مـن المـدريين رغم غيـابه عن المعركـة، وفرض له فـى غنـائمهـا، ثم زوجه النبي صـلى الله عـليه وسـلم ابنته أم كلثوم، ولهذا لُقب بذى النورين، فـلمـا توفيت فـى العـام التـاسع من الهجرة؛ حزن عُثمـان حزنًا شديدًا؛ لانقطـاع مصـاهرته للنبى صلى الله عليه وسـلم، فواساه مواساة رقيقة قائلا: لو كانت لنا أخرى لزوجناكها يا عثمان
عثمان مع النبي صلى الله عليه وسلم
جــاهـد عثمـان بن عفـان منذ أن أسـلم مع النبي صـلى الله عـليه وســلم بـمــاله ونـفسـه، فـهــاجـر الهـجرتـين: إلى الحـبشـة وإلى المدينـة، وصـاحبته زوجه رقيـة بنت النبيصـلى الله عليه وسلم، وتحمل كثيرًا من الأذى
بـذل عـثمــان مـاله فـى سبيـل الله ونصرة دعوته، وكـان من أكثر قريش مـالا، فـاشترى بئر رومـة باثنى عشر ألف درهم، وجعلها للمـســلمـين فـى المدينـة، وكـانوا يعـانون من قـلة الميـاه، و غـلاء أسعارها
كمـا أنفق مـاله فـى تجهيز الجيوش وبخـاصة جيش العسرة فى غزوة تـبوك فــى العـام التـاسع من الهجرة، فقد جهز وحده ثـلث الجيش، وكــان عـدده نـحو ثـلاثين ألفًا، فدعـا له رسول الله صـلى الله عـليه وسلم بخير، وقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، قالها مرتين
وشهد عثمـان المشـاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عـدا غـزوة بدر، فقد تخـلف عنهـا بـأمر من النبيصـلى الله عـليه وسلم، وأرسله النبيإلى مكة عام الحديبية لمفاوضة قريش، بعد اعتذار عمر بن الخطـاب لرسول الله بقوله: إنـى أخشـى على نفسى من قريش لشدتى عليها وعداوتى إياها، ولكنى أدلك على رجل أمنع وأقوى بها منى، عثمان بن عفان
ولمـا أشيع أن قريشًا قد قتـلت عثمـان، قـال النبيصـلى الله عـليه وسـلم: لو كـانوا فعـلوهـا فـلن نبرح حتى نناجزهم، وبايعه أصحـابه بيعـة الرضوان تحت الشجرة، وبايع النبينفسه نيابة عن عثمـان، وقـال: إن عثمان بن عفان فى حاجة الله وحاجة رسوله وضرب بـإحدى يديه على الأخرى مشيرًا إلى أن هذه بيعة عثمان، فـكــانـت يـد النبيصـلى الله عـليه وسـلم لعثمـان خيرًا من أيديهم لأنفسهم. وكان من كُتاب الوحى كما هو معلوم
ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان
الأحــاديث الواردة فـى فضـل عثمـان بن عفـان وثنـاء النبيعـليه كثيرة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ألا أستحى من رجل تستحي منه الملائكة ؟
وكــان عـثمــان بـن عفـان قريبًا من الخـليفتين، أبـى بكر الصديق وعمر بن الخطـاب، وموضع ثقتهمـا وأحد أركـان حكومتهمـا، ومن كبـار مستشـاريهمـا، وكـان يكتب لهمـا، وهو الذى كتب كتـاب ولاية العـهد مـن أبــى بكر إلى عمر بن الخطـاب - رضـى الله عنهمـا
وترتيب عثمـان فـى الفضل بين الصحابة كترتيبه فى تولِّى الخلافة عند جمهور علماء الأمة
أهل الشورى وبيعة عثمان
لم يشأ عمر بن الخطاب أن يعهد بالخلافة إلى شخص بعينه، وقال: إن أعـهد - يـعنــى لشخص محدد - فقد عهد من هو خير منـى - يقصد أبـا بكر عندما عهد إليه هو نفسه - وإن لم أعهد فلم يعهد من هو خير منـى - يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تركها شورى بين المسلمين
ولعــل اجتهـاده أدَّاه إلى أن تصرف الرسول وأبـى بكر يعطـى له الفرصـة أيضًا أن يختـار طريقـة أخرى لاختيـار من يخلفه، ليثرى بذلك طرق الاختيـار، وليرسخ فى أذهان الناس أن أمر اختيار الحاكم منوط دائمًا بـالأمـة وإرادتهـا ورضـاها، وهى التى تملك محاسبته وعزله إن ارتكب ما يوجب العزل
رشح عمر بن الخطـاب ستـة من الصحـابة، ليتولى واحد منهم منصب الخـلافـة، ولم يـأمر أحدًا منهم أن يصـلى بـالنـاس إمامًا، حتى لا يظن النـاس أنه يميل إليه، بل أمر صهيبا أن يصلى بالناس، لتكون فرصتهم فـى الاختيار متساوية، وشدد على ألا تمضى ثلاثة أيام بعد وفاته إلا ويكون عـليهم أمير من هـؤلاء الستـة يتولى مسئولية الخلافة ويتحمل تبعاتها
وبعد أن فرغ المسـلمون من دفن عمر، شرع المرشحون الستـة فى التفـاوض، وبعد نقـاش طويـل اقترح عليهم عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل عن حقه فى الخلافة. ويتركوا له اختيار الخليفة، فوافقوا على ذلك، فشرع فى معرفة آرائهم واحدًا بعد واحد على انفراد، فرأى أن الأغـلبيـة تميل إلى عثمان، ثم أخذ يسأل غيرهم من الصحابة، فلا يخلو به رجل ذو رأى فيعدل بعثمان
اطـمــأن عـبد الرحـمن إلى أن الأغـلبيـة تزكـى عثمـان بن عفـان فـأعـلن ذلك عـلى مـلأ من الصحـابـة فى مسجد النبي صلى الله عليه وســلم، ولمــا كــان يـعــلم أن الذى يـلى عثمـان فـى المنزلة عند الصحـابـة، هو عـلى بن أبى طالب، الذى مال إليه عدد منهم، فإنه رأى أن يـوضـح له أن الأغــلبـيــة مع عثمـان، فقـال له: أمـا بعد يا على، فإنى نظرت فى الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن عـلى نفسك سبيـلا - كأنه يحذره من المخالفة- ثم أخذ بيد عثمان، فـقــال: نـبـايعك عـلى سنـة الله ورسوله، وسنـة الخـليفتين بعده، فبـايعه عبد الرحمن، وبـايعه المهـاجرون والأنصـار؛ ولم يتخلف أحد عن بيعته من الصحابة، وكان ذلك بعد وفاة عمر بثلاثة أيام
خطبة البيعة
اسـتقبـل عثمـان بخـلافته أول المحرم سنـة 24هـ، وصعد المنبر بعد تمـام البيعة، وخطبهم قائلا -بعد حمد الله والصلاة على رسوله-: إنكم فـى دار قلعة -أى دار الدنيا - وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه.. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنـيــا، ولا يـغرنـكم بــالله الغـرور، اعتبروا بمـا مضـى، ثم جدوا ولا تـغفــلوا، فــإنـه لا يـغفُل عـنكـم، أين أبنـاء الدنيـا وإخوانهـا: الذين أثـاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم ؟ ارموا الدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة
وأول مــا يُلاحـظ عــلى الخـطبــة الأولى، التـى افتتح بهـا عثمـان خــلافته، خـلوهـا من الإشـارة إلى المنهج الذى سيسير عـليه، ولعـله اكتفـى بمـا قـاله لعبد الرحمن بن عوف لحظـة البيعـة، من أنه سيعمـل بكتاب الله، وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين بعده
كتبه إلى العمال والولاة
كتب عثمـان - رضى الله عنه - فى الأيام الأولى من خلافته عددًا من الكتب إلى الولاة وأمراء الجند، بل وإلى عامة الناس، تتضمن نصائحه وإرشاداته، يقول الطبرى: أول كتاب كتبه عثمان إلى عماله أمـا بعد فـإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة - يرعون مصالح الأمة - ولم يـتقـدم إليهم - أى لم يطـلب منهم - أن يكون جبـاة، وإن صدر هذه الأمــة خـلقوا دعـاة، ولم يخـلقوا جبـاة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جـبــاة ولا يـكونوا دعـاة، فـإن عـادوا كذلك انقطع الحيـاء والأمـانـة والوفـاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فـى أمور المسـلمين فيمـا عــليـهم، فتعطوهم مـالهم، وتـأخذوهم بمـا عـليهم، ثم تثنوا بـالذمـة، فـتعـطوهـم الذى لهـم، وتــأخـذوهـم بــالذى عــليـهم، ثم العدو الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء
وكـتب إلى أمـراء الأجـنـاد وقـادة الجيوش: أمـا بعد، فـإنكم حمـاة المسلمين و ذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملإ منـا، فـلا يبـلغنـى عن أحد منكم تغيير ولا تبديـل، فيغير الله ما بكم، ويـستـبدل بـكم غـيركـم، فـانظروا كيف تكونون، فـإنـى أنظر فيمـا ألزمنى الله النظر فيه، والقيام عليه
وكتب إلى عمال الخراج المسئولين عن الشئون المالية: أما بعد فإن الله خـلق الخلق بالحق، ولا يقبل إلا الحق، خذوا الحق، وأعطوا الحق، والأمـانـة الأمـانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها.. والوفاء الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم
وكتب إلى عـامة الرعية: أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتبـاع، فـلا تفتنكم الدنيـا عن أمركم، فإن أمرهذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع
وهذه الكتب توضح سيـاسـة عثمـان بن عفـان العـامـة، التـى كـان يتوخـى أن يتبعها عماله وولاته فى إدارة شئون الأمة، وهى سياسة طـابعهـا الرفق بـالرعيـة، والسهر على مصالحها، والإنصاف فى جمع الخراج، وإيصـال الحقوق إلى أصحـابهـا، والإحسان إلى أهل الذمة، ورعاية جميع طوائف الأمة
الفتوحات فى عهد عثمان بن عفان
المسلمون والفرس
كـان عمر بن الخطـاب قد أمر المسـلمين بـالانسيـاح فى بلاد فارس بـعد مـوقـعــة نـهــاوند سنـة 21هـ وكـلمـة الانسيـاح من تعبيرات المـؤرخين القدماء، وهى تدل على سهولة الفتح بعد نهاوند؛ إذ لم
يلق المسلمون هناك مقاومة تذكر
وقـد نجح قـادة الجيوش التـى أرسـلهـا عمر فـى فتح المقـاطعـات الفــارسـيــة كـهمـذان، وخـراســان وأذربـيجــان، واصطخر، وأصـبهـان، وكـان أمراؤهـا الفرس قد رأوا عدم جدوى المقـاومـة، فسـلموا بـلادهم عـلى شروط المسـلمين، وقبـلوا دفع الجزية، ووقعت مـعهـم مـعـاهدات، هـى آيـة فـى الرحمـة والعدل والتسـامح، من ذلك معاهدة عتبة بن فرقد لأهل أذربيجان
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا مـا أعطـى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطـاب أمير المـؤمنين أهـل أذربيجـان : سهـلهـا وجبـلهـا وحواشيها و شفـارهـا، وأهـل مـللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم و شرائعهم، عـلى أن يـؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبى ولا امرأة ولا زمن مريض - ليس فـى يديه شـىء من الدنيـا، ولا متعبد مـتخــل ليـس فــى يـديـه شــىء من الدنيـا لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعــليـهم قِرَى المـسـلم من جنود المسـلمين يومًا وليـلة ودلالته - عـلى الطريق -ومن حشر منهم - أى من يُستعـان به فـى خدمات الجيش - فى سنـة، وضع عنه جزاء تـلك السنـة - أى لا يدفع جزيـة - ومن أقـام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه
وبعد مقتـل عمر نقضت معظم المقـاطعـات الفـارسيـة معاهداتها مع المسـلمين، ظنا من أمرائها أن فى مقتل عمر فرصة لطرد المسلمين مـن البــلاد التــى فـتحـوهــا، فوقف عثمـان بن عفـان لهذه الثورة وقضـى عليها، كما فعل أبو بكر حيث قمع الردة فى شبه الجزيرة العربيـة، وأعـاد إليهـا وحدتهـا الدينيـة والسيـاسيـة، وأخذ عثمان يـجهـز الجيوش، ويصدر أوامره إلى أمراء الأمصـار الوليد بن عقبـة فــى الكوفـة، و عبد الله بن عـامر فـى البصرة، للتصدى بحزم لحركة الردة الفارسية، وإعادة الفرس إلى الطاعة والنظام
وكـانت إعـادة فتح تـلك المقـاطعات أصعب من فتحها الأول فى عهد عـمر بـن الخـطــاب؛ لأنـهــا حـينـذاك سـلمت بدون قتـال تقريبًا بعد هزيمتهم فـى نهـاوند فـى حين بذل المسـلمون فـى عهد عثمان جـهدًا كـبيـرًا، وخـاضوا معـارك شرسـة فـى بضع سنوات 24 - 31هـ لإعـادة فتح بـلاد فـارس مرة أخرى، وقد شهدت تـلك المعـارك الفصل
الأخير من حيـاة آخر مـلوك آل ساسان يزدجرد الثالث، حيث لقى مصرعه عـلى يد رجـل فارسى فى مرو سنة 31هـ، وبموته طويت صفحة دولة فارس من التاريخ
ومـمـا يجدر ذكره ويثير الإعجـاب أن المسـلمين لم يقسوا عـلى الفرس ولم يـنكــلوا بـهم بـعد ثـورتـهم وخـروجـهم، بـل قبـلوا اعتذارهم، ولم يـفرضـوا عــليـهم التـزامــات جـديـدة، واستمروا فـى معـامـلتهم طبقًا للمعاهدات الأولى
وبدأت بـلاد فـارس تشهد تاريخًا جديدًا تحت راية الإسلام، يملؤه العدل والتسامح والرحمة، وأسلمت الأمة الفارسية، وأصبحت جزءًا مهما من العالم الإسلامى وأسهمت إسهامًا كبيرًا فى بناء الحضارة الإسلامية
المسلمون والروم فى عهد عثمان
بـعد وفــاة عـمر بن الخطـاب، قـام الروم بمحـاولة لطرد المسـلمين، فهـاجموا الشـام - فـى السنة الأولى من خلافة عثمان بقوات كبيرة مـن آسـيــا الصـغيـرة، جـعـلت والى الشـام القدير معـاويـة بن أبـى سفيـان يطـلب المدد من عثمـان بن عفان، الذى أمر بتحريك قوات من العراق لنجدة الشام
وكـتب عـثمــان بـن عفـان إلى والى الكوفـة الوليد بن عقبـة كـتـابًا يقول فيه: أمـا بعد فـإن معـاويـة بن أبـى سفيـان كتب إلىَّ يـخبـرنــى أن الروم قـد أجــلبت عـلى المسـلمين بجموع عظيمـة - أى هـاجمت - وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهـل الكوفـة، فـإن أتـاك كـتــابــى هـذا، فــابـعث رجـلا ممن ترضـى نجدته وبـأسه وشجـاعته وإسـلامه، فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف، إليهم من المكان الذى يأتيك فيه رسولى، والسلام
ولمـا بـلغ الكتـاب والى الكوفـة، جمع النـاس وخطب فيهم وأبلغهم أمر الخـليفـة، وقـال: قد كتب إلىَّ أمير المـؤمنين يـأمرنـى أن أندب مـنكم مـا بين العشرة الآلاف إلى الثمـانيـة الآلاف، تمدون إخوانكم من أهـل الشـام، فـإنهم قد جـاشت عـليهم الروم، وفى ذلك الأجر العظيم والفضـل المبين، فـانتدبوا رحمكم الله مع سـلمـان بن ربيعـة الباهلى، فـانتدب الناس، فلم يمض ثالثة - أى ثلاثة أيام - حتى خرج ثمانية آلاف رجـل من أهـل الكوفـة، فمضوا حتـى دخـلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهرى، وعلى جند أهـل الكوفـة سـلمان بن ربيعة، فشنوا الغارات على أرض الروم، فـأصاب الناس م اشاءوا من سبى، وملئوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصونًا كثيرة
محاولات الروم العودة إلى مصر
لم يكف الروم عن محـاولاتهم الهجوم عـلى المسـلمين، عـلى الرغم من هزيمتهم فى الشام، وما إن اعتلى الإمبراطور قنسطانز الثانى 22 - - 48هــ =642 - 668م حـتــى سـيطـرت عــليـه فـكرة اسـترداد الشـام و مصر من أيدى المسـلمين، كمـا استردهـا جده هرقل من الفرس قبل سنوات قليلة من الفتح الإسلامى، فأرسل فى سنة 25 هـ = 645 م حـمــلة بـحريـة كبيرة إلى مصر، بقيـادة مـانويـل، تمكنت من الاسـتيــلاء عــلى الإسـكندريـة، بمسـاندة من بقـى فيهـا من الروم والإغـريـق، وبـدأت تـتوغـل جنوبًا قـاصدة حصن بـابـليون، فكـلف الخـليفـة عثمان قائده عمرو بن العاص بمهمة الدفاع عن مصر وطرد الروم، وكـان عمرو قد أعفى من ولايتها بناء على طلبه فى مـطــلع خــلافـة عثمـان، فـلم يتردد الفـاتح الكبير فـى العودة إلى مـصر للقـيــام بهذه المهمـة، ونجح فـى طرد الروم نهـائيـا، بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة، وقتل مانويل قائد حملتهم
استمرار فتح شمال إفريقيا فى عهد عثمان
لمــا ولى عـبد الله بـن سـعد بن أبـى السرح ولايـة مصر من قبـل عثمان بن عفان؛ كتب إليه أن الروم الذين لا يزالون يسيطرون على شـمــال إفـريـقيــا يـغيـرون عـلى حدود مصر الغربيـة، ولابد من مـواجـهتـهم قـبــل أن يـتجـرءوا ويـهـاجموا مصر نفسهـا، فـاقتنع عـثمــان بعد أن استشـار كبـار الصحـابـة، وأذن له بتجريد حمـلات عسكريـة لردعهم وكف عدوانهم، كمـا أرسل إليه جيشًا من المدينة مددًا، يضم عددًا من الصحابة كابن عباس، وعبد الله بن الزبير رضى الله عنهما
وفـى سنـة 27هـ = 647م انطـلق جيش المسـلمين بقيادة عبد الله بن سـعد، وتـوغــل غربًا حتـى وصـل إلى قرطـاجنـة عـاصمـة إقـليم تـونـس فــى ذلك الوقـت، ودارت عـدة مـعـارك بين المسـلمين وبين مـلكهـا جريجوار أوجرجير كمـا تسميه المصـادر العربيـة، انتهت بــانـتصــار المـســلمـين وقتـل المـلك جريجوار عـلى يد عبد الله بن الزبير
ولم تكن تـلك الحمـلة تهدف إلى الاستقرار، بل إلى ردع العدوان، ولذا اكتفـى عبد الله بن سعد بعقد معـاهدات صـلح مع زعمـاء تلك البلاد تعهدوا فيها بدفع مبلغ كبير
وبـعد عـودة عـبد الله بـن سعد إلى مصر، قـام بفتح بـلاد النوبـة جـنوبًا سـنــة 31هــ = 651م، وعــلى الرغـم من أنهـا لم تخضع بـلاد النوبـة للمسـلمين، فـإنها انتهت بعقد صلح بين الطرفين، اتفقا فيهعلى تبادل التجارة والمنافع
نشأة الأسطول الإسلامى
يُعد إنشـاء الأسطول الحربـى الإسلامى من أعظم الإنجازات التى تمت فـى عهد أمير المـؤمنين عثمـان بن عفان فبعد الفتوحات الإسلامية فــى مـصر والشــام وجـد المـسـلمون أنفسهم قد سيطروا عـلى الشواطئ الشرقيـة والجنوبيـة للبحر المتوسط، الذى كان يُعرَف وقتئذٍ ببحر الروم، لأن سيطرتهم عـليه كـانت كـامـلة، ولم تنـازعهم فـى ذلك دولة أخرى؛ ولذا كـان المسـلمون فـى حـاجة إلى قوة بحرية تمكنهم من الحفاظ على شواطئهم ضد هجمات الأسطول البيزنطى
وكـان أول من تنبه إلى ذلك معـاويـة بن أبى سفيان والى الشام؛ لأنه اضطـلع بفتح سواحـل الشـام، مثل: صور، وعكا، وصيدا، وبـيروت مـنذ عـهد الخــليـفتـين أبــى بـكر الصـديـق وعـمر بن الخطـاب، وواجه صعوبات كثيرة فى فتح تلك المدن، لقوة تحصينها من نـاحيـة، وتوالى الإمدادات التـى تأتيها من البحر من ناحية أخرى، كما أنها كانت محطات للأساطيل البيزنطية
ولمـا أدرك معـاويـة أنه بدون قوة بحريـة إسـلاميـة فلن يتمكن من الدفـاع عن كـل السـاحل الشامى، فعرض الأمر على الخليفة عمر بن الخطـاب، مصورًا له حجم الخطر بقوله: يا أمير المؤمنين، هناك قرية مـن قـرى الروم - يـقصـد جـزيـرة قـبرص - فــى عـرض البحر، تتخذهـا أسـاطيـلهم قـاعدة للعدوان علينا، وهذه القرية قريبة من حدودنا إلى درجة أن أهل حمص - من مدن الشام - يسمعون نباح كلابها وصياح دجـاجهـا، فـأذن لنـا ببناء أسطول حربى بحرى، لكن عمر رفض ذلك رفـضًا قــاطـعًا؛ لخـوفه عـلى المسـلمين من أهوال البحـار، وأن الوقت لا يزال مبكرًا للدخول فـى هذا المجـال، وقـال لمعاوية: لمسلم واحـد أحـب إلى مـمـا حوت الروم، يقصد أن سـلامـة المسـلمين عنده مقدمـة على أى شىء آخر، وطلب من معاوية أن يستعيض عن ذلك بتقويـة حصون السواحـل، فـامتثـل معاوية، لكنه لم يفقد الأمل فى تحقيق ما يصبو إليه
بناء الأسطول
بـادر معـاويـة بن أبى سفيان بعد تولى عثمان بن عفان الخلافة سنـة 24 هـ إلى عرض مشروعه القديم عـليه، الذى يقضـى بـإنشـاء أسطول بحرى، لكن عثمـان رفض فـى البدايـة، وذكره بمادار بينه وبين عمر بن الخطـاب فـى ذلك الشـأن، وأنه حريص عـلى سـلامـة المـسـلمين كحرص عمر من قبـل لكن معـاويـة ألح عـليه إلحـاحًا شديدًا، وكـان أجرأ عليه من عمر، ولم يكف عن المحاولة حتى ظفر مـنه بــالإذن، وكــان إذنًا مـشروطًا، بـألا يُكره أحدًا من الجنود عـلى العمل فى الأسطول
بدأ معـاويـة بن أبـى سفيـان يعمل على الفور فى بناء الأسطول، مـتعــاونًا مـع عـبد الله بـن سـعد بـن أبــى السـرح، والى مصر، ومستثمرًا كـل الإمكانات المتاحة والصالحة لصناعة السفن فى مصر والشــام، حيث كـانت فـى مصر دور قديمـة لصنـاعـة السفن، وعدد كبير من العمـال المهرة المدربين، وأشجار السنط التى تصلح لعمل الصوارى وضـلوع السفن، وكانت الشام تتمتع بكثير من المواد اللازمة مثـل أخشـاب الصنوبر والبـلوط والعرعر، وأدى هذا التعـاون بين مصر والشام إلى بروز الأسطول الإسلامى وظهوره
فتح جزيرة قبرص سنة 28هـ:
كــان أول عـمــل بحرى نـاجح قـام به الأسطول الإسـلامـى، هو فتح جزيرة قبرص التـى كـانت تهدد شواطئ المسلمين باستمرار لقربها مـنهــا من نـاحيـة، وبـاعتبـارهـا محطـة مهمـة من محطـات الأسـاطيـل البيزنطية من ناحية أخرى
وقد غزاها معاوية سنة 28هـ، أى بعد أربع سنوات فقط من بناء الأسـطول الإســلامــى، وهــى مـدة ليست بـالطويـلة لإنشـاء أسطول بحرى،ولكنها عزيمة الرجال وإصرارهم على إنجاز العمل
وكــانـت الغزوة مشتركـة أسهمت فيهـا قوات الشـام، وقوات مصر بقيـادة عبدا لله بن سعد، ونزلوا قبرص واستولوا عـليها، فعرض أهلها الصلح، فقبل معاوية، واشترط لعقده عدة شروط
- أن يدفع أهل قبرص جزية سنوية، مقدارها سبعة آلاف دينار
- وأن يُعــلمـوا المـسـلمين بـأيـة تحركـات عدائيـة من جـانب الروم ضد
سواحلهم
- وأن يقف أهـل قبرص عـلى الحيـاد، إذا نشبت حرب بين المسلمين والروم، ولكـن لا يـمنـعون المسـلمين من المرور بجزيرتهم إذا احتـاجوا إلى ذلك
ولم يــلتزم أهـل قبرص بمـا تعـاهدوا عـليه فـى الصـلح، ممـا جعـل
معـاويـة يعـاود غزو الجزيرة مرة أخرى سنـة 33هـ ويضمهـا إلى دولة الخــلافــة، وينقـل إليهـا اثنـى عشر ألفًا من المسـلمين من أهـل الشام، وأسكنهم فيها، وبنى لهم الدور والمساجد
موقعة ذات الصوارى سنة 34هـ:
أثـار بروز الأسطول الإسـلامـى فـى البحر المتوسط حفيظة قنسطانز الثانى الإمبراطور البيزنطى، و جعله يفكر فى القضاء على الأسطول الإسـلامى وتحطيمه، قبل أن تكتمل قوته، ويزداد خطره، وحتى تظل السـيطـرة عــلى البـحر المـتوسـط للأسـطول البـيزنطـى وحده دون غيره، فعبـأ الإمبراطور قواته البحرية كلها، واتجه بها قاصدًا سواحل الشـام، وهو لا يراوده شك فـى قدرته عـلى تدمير السفن الإسـلاميـة؛ لحـداثــة نشـأتهـا، وقـلة خبرة رجـالهـا، لكن المسـلمين استعدوا لهذا اللقـاء جيدًا وتعاون الأسطولان فى مصر والشام، لرد هذا العدوان، وأسندت قيادتهما إلى عبد الله بن سعد والى مصر. و التقى الأسطولان الإسلامى و البيزنطى - الذى كان بقيادة الإمبراطور نـفسـه - فــى شـرقــى البـحر المـتوسـط، جنوبـى شـاطئ آسيـا الصغرى تركيـا الحـالية، ودارت بينهما معركة بحرية كبيرة، سُميت بـمعـركـة ذات الصوارى، لكثرة السفن التـى اشتركت من الجـانبين خمسمـائـة سفينـة من جـانب الروم، مقـابـل مـائتـى سفينـة من جانب المـسـلمين وانتهت المعركـة بنصر عظيم للمسـلمين، وهزيمـة سـاحقـة للأسطول البيزنطى، و نجاة الإمبراطور من القتل بأعجوبة
ونتيجـة لهذه الهزيمـة لم يرجع الإمبراطور إلى عاصمة القسطنطينية بـعد المـعركــة، وإنـمــا ذهـب إلى جـزيرة صقـليـة، قبـالة شـاطئ تونس، فـى محـاولة منه لحماية ما تبقى من دولة الروم فى شمال إفريقيا، لكنه قتل فى صقلية سنة 68هـ = 688م
مصحف عثمان
إذا كـان لعهد عثمـان بن عفان - رضى الله عنه - أن يفخر بما أنجز فيه من الأعمـال العظيمـة؛ فإن له أن يفخر بما هو أعظم منها جميعًا، وهو جمع القرآن الكريم على لغة واحدة. للقرآن صورتـان صورة صوتيـة مقروءة، وأخرى مكتوبة مدونة، وقد حرص الرسول صـلى الله عـليه وسلم على تدوين الآيات فور نزولها، وقبـل انتقـاله إلى الرفيق الأعـلى راجع مع جبريـل - عـليه السلام ترتيب الآيات والسور مرتين. وقد حفظ الصحـابـة القرآن بـاللهجـات التـى درجوا عـليها، وأجاز لهم النبي صــلى الله عــليه وسـلم ذلك، و لذا ظهر الاختـلاف فـى وجوه القراءة بين الصحـابـة من بدء نزول القرآن، نتيجة للهجة التى اعتادها
اللسان
ولما جُمِعَ القرآن الكريم الجمع الأول فى الصحف فى عهد أبى بكر بهيئته المكتوبـة، بقيت الصورة الصوتيـة كمـا هـى، و لمـا فُتحت البلاد وتـفرق الصـحـابـة فيهـا، أخذ أهـل كـل إقـليم يقرءون القرآن بقراءة الصحـابـى أو الصحـابـة الذين عـاشوا بينهم، فتمسك أهـل الكوفة بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهـل الشـام بقراءة أبـى بن كعب، وأهــل البـصرة بـقراءة أبــى مـوســى الأشـعرى، و مع اتسـاع الفتوحـات، زاد الخلاف بين المسلمين حول قراءة القرآن، وتحول الأمر إلى تعصب، بـل كـاد أن يؤدى إلى فتنة بينهم، مما أفزع حذيفة بن اليمـان الصحـابـى الجـليل، وكان يقرأ فى أذربيجان، فرجع إلى
المدينة، وأخبر عثمان بن عفان بما رأى
جـمع عـثمـان الصحـابـة، و أخبرهم الخبر، فـأعظموه، ورأوا جميعًا مـا رأى حذيفـة من ضرورة جمع النـاس عـلى مصحف واحد، وأرسل عثمـان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر أن تبعث إليه بالمصحف الذى جُمع فـى عهد أبـى بكر - وكـان عمر بن الخطاب قد أخذه بعد وفـاة أبـى بكر، ثم حُفظ بعد موته عند ابنته حفصـة- ثم أمر زيـد بـن ثـابت - الذى جمع القرآن الجمع الأول فـى عهد أبـى بكر الصديق - و عبد الله بن الزبير، و سعيد بن العـاص، و عبد الرحمن بن الحـارث بن هشـام، أن ينسخوه، وقـال لهم: إذا اختـلفتم - يعنـى فـى كلمة أو كلمات- فاكتبوها بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، فـلمـا نسخوه، أرسـل إلى كـل إقـليم مصحفًا وأمر بـإحراق ما سوى ذلك، و قد سمى هذا المصحف بالمصحف الإمام أو مصحف عثمان
الفتنة وأسبابها
سـارت الأمور فـى الدولة الإسـلامية على خير ما يرام فى الشطر الأول من خـلافة عثمان - رضى الله عنه - 24 - 30هـ، و لكن مع بداية سنة 31هـ هبت عـلى الأمـة الإسـلاميـة ريـاح فتنة عاتية، زلزلت أركانها، وكــلفـتهـا تضحيـات جسيمـة، واستمرت هذه الفتنـة نحو عشر سنين، شمـلت مـا تبقى من خلافة عثمان بن عفان، وكل زمن خلافة على
بن أبى طالب -رضى الله عنهما- 31-40هـ
وممـا لاشك فيه أن تـلك الفتنـة كـانت نتيجـة لمـؤامرة واسعـة النطاق كـانت أحكم فى تدبيرها، وأوسع فى أهدافها، وأخطر فى نتائجها من مـؤامرة اغتيـال عمر بن الخطـاب - رضـى الله عنه -، لأن اغتيال عـمر لم يـخــلف آثــارًا خـطيـرة بـين المـسـلمين، ولم يقسمهم شيعًا وأحـزابًا كمـا حدث فـى آخر عهد عثمـان، ولأن الذين خططوا لقتـل عمر والذين قـاموا بتنفيذ ذلك كـانوا غير مسـلمين وغير عرب، فى حين أن الذين قتـلوا عثمـان وعليا من بعده كانوًا عربًا مسلمين، وهذا هو وجه الخطورة، حتى وإن كان التخطيط من غيرهم
و الذى لاشـك فـيه أن الذى تـولى التـخطيط للفتنـة، وقتـل عثمـان، وإغراق الأمـة فـى بحر من الدمـاء، هو عبد الله بن سبـأ اليهودى، الذى ادعـى الإسـلام؛ ليتمكن من الكيد له من داخـله، و الذى لُقِّب بـابن السوداء
وقبـل الحديث عنه يحسن تنـاول الظروف والأجواء التـى كانت سائدة فـى عهد عثمـان - رضـى الله عنه - واستغـلهـا ابن سبـأ لتحقيق أهدافه المدمرة
أولا: تغيرت الظروف فـى آخر حيـاة عثمـان بـل وفـى بداية خلافته عمـا كـانت عـليه فى خلافة عمر بن الخطاب، وربما كان هذا تطورًا طبيعيـا فـى حيـاة الأمـة، فقد كثرت الغنائم فى أيدى الناس، و بدءوا يتوسعون فـى المـأكـل والمـلبس والمشرب، وبخاصة الجيل الجديد من العرب الذى دخـل فـى الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتـأدب بـآدابه، ولم يتعود حياة القناعة والقصد فى المعيشة التى كان يحياها الصحابة فى حياته صلى الله عليه وسلم
ولم يُرضِ ذلك التوسع فـى المعيشـة صحـابيا جليلا اشتهر بالزهد، هو أبو ذر الغفـارى، فسخط عـلى عثمـان وولاته وعمـاله، وحمـلهم مـسئوليـة ذلك التطور الاجتمـاعـى الطبيعـى الذى لم يكن من صنعهم، وراح ينـادى بتحريم امتـلاك المسـلم لشـىء من المال فوق حاجة يومه وليــلتـه، واسـتشـهد عــلى ذلك بقوله تعـالى: [والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة 34
ولم يوافق أحد من الصحـابة أبا ذر فيما نادى به، وكانوا يرون أن المــال إذا جُمع من حـلال، وأدى عنه صـاحبه حق الله وهو الزكـاة: لا يعتبر كنزًا، ولا تنطبق عـليه الآيـة موضع الاستشهـاد، والنبي صـلى الله عـليه وسـلم كـان يخزن مـؤنـة بيوته لمدة سنـة إذا كانت الظروف تسمح بذلك، وتشريع الله للمواريث فى نظام دقيق يقتضى ترك الميت ثروة تقسم بين ورثته، وكثير من الصحـابـة كـانوا أغنيـاء عـلى عهد النبي صـلى الله عـليه وسـلم، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ثراءهم، بـل يُروى أنه قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح - مسند أحمد
وقد نصح النبي صـلى الله عـليه وسـلم سعد بن أبى وقاص حين أراد أن يتصدق بمـاله كـله بقوله: إنك إن تذر ورثتك أغنيـاء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس - صحيح البخارى، كتاب الجنائز
و لو أن أبا ذر الغفارى - رضى الله عنه - احتفظ برأيه لنفسه، لكان الأمر هينًا، ولكنه أذاعه فـى الناس؛ ووجد صداه عند الكسالى والذين يريدون أن يعيشوا عـالة عـلى غيرهم، فـألبوا النـاس عـلى عثمان و ولاته، وكانت تلك الدعوة سببًا من أسباب الفتنة
وعـلى الرغم من اعتزال أبى ذر الناس فى الربذة شرقى المدينة امتثـالا للخـليفـة؛ فـإن دعوته كانت قد استشرت، وتلقفها ابن سبأ اليهودى وأشعلها بين الناس
ثــانـيًا: شــارك عـدد كـبير من أهـل اليمن ومنطقـة الخـليج فـى الفتوحـات الإسـلامية، وكان دورهم فى تحقيق النصر لا ينكر، ولكنهم وجـدوا بـعد الفـتح أن الإمــارات والوظــائف الرئيسيـة قد أُسندت إلى غيرهم و بخاصة أبناء قريش، و كبار المهاجرين و الأنصار وأبنائهم، فــلم يـعجـبهـم ذلك، و رأوا أنـفسـهم أحـق بـالإمـارات التـى فتحوهـا بسيوفهم، مع أنه كـان من الضرورى أن يتولى المهـاجرون والأنصـار هـذه الولايـات؛ لأنهم يعرفون الإسـلام وشرائعه أكثر، فقدمهم عـلمهم
وفقههم فـى الدين وسـابقتهم فـى الإسـلام، و جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنسابهم وأحسابهم
ونـتيجـة لذلك تكونت جبهـة عريضـة من أبنـاء تـلك المنطقـة معـارضـة لسيطرة أبنـاء المهـاجرين والأنصـار عـلى الدولة الإسـلامية، و لم تكن شكواهم من الولاة واتهـامهم بـالظـلم حقيقيـة، بـل كـانت ذريعة للنيل منهم، و من الخـليفـة عثمـان، و هدفًا لقلب الدولة و تغيير نظام الحكم المتهم بـالظـلم، وهـؤلاء كـانوا صيدًا سمينًا لابن سبأ فاستغل السخط الذى ملأ قلوبهم لتحقيق هدفه الشرير
ثالثًا: عندما بدأت هذه الفتنة كان معظم ولاة الأقاليم من قريش، بل من بنى أمية أهل عثمان، وأقربائه، مما سهل على ابن سبأ مهمته فـى إشعـال نـار الفتنة، و الحق أن هؤلاء الولاة، و هم معاوية بـن أبـى سفيـان والى الشـام، و عبد الله بن سعد بن أبـى السرح والى مـصر، وعـبد الله بـن عــامـر والى البـصرة، والوليد بن عـقبـة والى الكوفـة، كـانوا من خيرة الولاة، وممن أسهموا فـى تثبيت الفتوحـات الإسلامية بعد استشهاد عمر، وممن مارسوا الحكم قبـل خـلافـة عثمـان، بـل إن معـاويـة بن أبى سفيان كان واليًا عـلى الشـام من عهد أبـى بكر الصديق. ومن ثم لم يولِّهم عثمـان لهوى فـى نفسه، أو لأنهم من أقربائه، بل ولاهم لكفايتهم ومقدرتهم الإدارية
ومـمــا يــؤسـف له أن بعض الكتـاب الكبـار صوَّروا الأمر عـلى غير مـا تقتضيه الحقيقـة التـاريخيـة، وكـأن عثمـان بن عفـان أتـى بهـؤلاء الولاة مـن قــارعـة الطريق، وعينهم عـلى الولايـات الكبيرة، وحمـلهم عـلى رقـاب الناس؛ لأنهم أقرباؤه فحسب. ويذهب بعضهم إلى تصوير أمـر استعفـاء عمرو بن العـاص من إمـارة مصر بنـاء عـلى طـلبه عـلى أنه عزل من عثمـان ليعين مكـانه أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد، ولا يذكر شيئًا ممـا يعرضه مـؤرخو مصر الإسـلامية كابن عـبد الحـكم و الكـندى، مـن أن عـبد الله بن سعد كـان واليًا عـلى صـعيـد مـصر من قبـل عمر بن الخطـاب، فـلمـا تولى عثمـان بن عفـان الخـلافـة طـلب منه عمرو بن العاص أن يخصه وحده بإمارة مصر كـلهـا، فرفض عثمـان، فـاعتزل عمرو الولايـة بناء على طلبه، ولم يعزله عثمان بن عفان
رابعًا: أن من أبنـاء البلاد المفتوحة وبخاصة بلاد فارس، من لم يسترح إلى سيـادة العرب عـليهم، وسيطرتهم عـلى بلادهم، و هم الذين كانوا بـالأمس يحتقرونهم وينظرون إليهم فـى استعـلاء، فعزَّ عـلى أنفسهم ذلك، فـلم يتركوا فرصة لزعزعة الدولة الإسلامية إلا و انتهزوها، خاصة مـن لم يـتمكن الإسـلام فـى قـلوبهم منهم، وهـؤلاء كـان لهم دور فـى إثارة الفتنة على عثمان، واستمر حتى آخر العصر الأموى
خـامسًا: أن كـل ما تقدم كان يمكن تداركه وعلاجه، بل إن عثمان - رضـى الله عنه - حاول إجابة كل مطالب الثائرين عليه والمؤلبين للناس ضده، لكنهم لم يقتنعوا؛ لأن الخـليفـة لان معهم وحـلُم عـليهم أكثر مما كــان يـنبغـى، ولو أخذهم بـالشدة والحزم كمـا كـان يفعـل عمر بن الخطاب مع أمثالهم لارتدعوا، ولحُسمت الفتنة
عبدالله بن سبأ
هـو رجــل يهودى من صنعـاء ادعـى الإسـلام فـى عهد عثمـان، وأخذ يبث فـى المسلمين أفكارًا غريبة وبعيدة عن الإسلام، مثل قوله بـالوصيـة أى أن عـلى بن أبـى طـالب، هو وصى النبي صلى الله عـليه وسـلم وخـليفته من بعده، ومعنـى ذلك أن الخلفاء الثلاثة، أبا بكر وعمر وعثمان اغتصبوا حق على فى الخلافة
وبـدأ ابـن سـبـأ من هذه النقطـة، مستغـلا كـل الأطراف التـى سبق الحـديـث عـنهــا، ووضع للثـائرين والنـاقمين عـلى اختـلاف مشـاربهم وأهدافهم خطـة للتحرك ضد الخـليفـة وولاته، وأشـار عليهم بالنيل من الولاة أولا؛ لمـا كـان يعرف أن عثمـان نفسه فوق الشبهـات، حتى إذا نجحوا فـى تشويه سمعـة الولاة، انتقـلوا إلى عثمـان باعتباره المسئول الأول عنهم، ومما قاله لأتباعه: إن عثمان أخذها بغير حق، وهـذا وصــى رسـول الله - يـقصـد عــليًّا - فــانـهضـوا فــى هذا الأمر
فـحركـوه، وابـدءوا بـالطعن فـى أمرائكم، وأظهروا الأمر بـالمعروف والنهى عن المنكر، تستميلوا الناس
أخـذ ابـن سـبــأ يـتنـقــل بـهذا التدبير الشيطـانـى بين الأقـاليم من البـصرة إلى الكـوفــة إلى الشــام إلى مـصر، يـبث أفـكـاره وسمومه، وكـانت خطته بـالغـة الإحكـام، جعـلت أتبـاعه ينجحون فى زرع الشكوك فـى نفوس الصحـابة فى المدينة، مثل على بن أبى طــالب، و الزبـير بـن العـوام، و طــلحــة بـن عـبيد الله، والسيدة عـائشـة - رضـى الله عنهـا - وهـؤلاء كـلهم كـانت تصـلهم معلومات كــاذبــة عـن ظــلم ولاة الأقـاليم، لكنهم صدقوهـا للأسف، ولم يتبينوا كـذبهـا إلا بعد فوات الأوان، و بعد أن وقعت الواقعـة، وقتـل الخـليفـة الثالث مظلومًا
موقف عثمان من الفتنة
لمــا سـمع عـثمـان بن عفـان مـا يقـال عن ولاة أقـاليمه جمع أهـل المدينـة، وقـال لهم: أشيروا عـلى، فـأشاروا عليه أن يرسل رجالا إلى الأقـاليم للتحقيق فيمـا وصله من كلام عنهم، كما كان يفعل عمر بن الخطـاب، فاستجاب على الفور، وحدد أربعة من الصحابة من غير بنـى أميـة - حتـى لا يتهمهم أحد بـالتحيز للولاة - للقيـام بما كلفهم به، فـأرسـل محمد بن مسـلمـة إلى الكوفـة، وأسـامة بن زيد إلى البـصرة، وعـبد الله بن عمر إلى الشـام، وعمـار بن يـاسر إلى مـصر، وعــاد الثــلاثــة الأول إلى المـدينـة، وقدموا تقـارير للخـليفـة بـأن الأمور تجرى عـلى خير وجه، وأن الشكاوى التى تصل إلى المدينـة كـلهـا بـاطـلة، ولا أسـاس لهـا من الصحـة؛ وأن الولاة يقومون بعمـلهم خير قيـام، أما عمار بن ياسر فلم يعد من مصر، لأنـه لمــا وصــل إليهـا، تصـادف وجود ابن سبـأ فيهـا، فـاستقطبه للأسف وضمه إلى صفه، مما جعل الأمر يستفحل ويزداد خطرًا
وبعد أن تبين بطـلان مزاعم أتبـاع ابن سبأ، الذين ألبوا الناس على عـثمــان - وكــلهـم عرب مسـلمون- لان لهم الخـليفـة، وعطف عـليهم وحاول استرضاءهم بدلا من عقابهم وأخذهم بالشدة
ولمـا تهيـأ الجو، ورأى زعمـاء الفتنـة أن الفرصـة سـانحة للتخلص من الخــليـفــة، خـرجـوا إلى المـديـنــة عــلى رأس وفود أهـل مصر و البصرة و الكوفـة، وكـانوا نحو عشرة آلاف متظـاهرين بالحج، مخفين نيـاتهم الخبيثـة عن عـامـة النـاس، الذين شكوا إلى الخليفة من تـصرفــات لولاتهم لا يرضونهـا، فوعدهم خيرًا، وأمرهم بـالعودة إلى
أمصـارهم، فرضوا لمـا رأوه من سمـاحته وعطفه، وعادوا. أما زعماء الفتنـة من أمثـال: الأشتر النخعى، و عمرو بن الأصم، و حرقوص بن زهير السعدى، و الغـافقـى بن حرب، فقد سـاءهم عودة عامة النـاس الذين لا عـلم لهم بـالمـؤامرة، وسُقِطَ فـى أيديهم، وعزموا على قتـل الخـليفـة أو عزله، فتخلفوا فى المدينة، وزوَّروا كتابًا، ادعوا كذبًا أنهم وجدوه مع غـلام من غـلمـان عثمان، موجه إلى عبد الله بن سعد والى مصر يأمره فيه بقتل بعض الثائرين وتعذيب بعضهم الآخر
عـاد الثـائرون من الطريق بهذا الكتـاب، فعرضوه على على بن أبى طــالب، فــأدرك أنـه مـزور، لأن الذيـن ادعـوا أنهم وجدوه هم أهـل مصر، ولكنهم عندمـا عادوا عادوا جميعًا، أهل مصر والكوفة والبـصرة، مـع أن طرقهم مختـلفـة، فعودتهم فـى وقت واحد، تدل عـلى أن الأمر مدبر، فقـال لهم عـلى: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهــل البـصرة بمـا لقـى أهـل مصر وطريقكم مختـلف وقد سرتم عـلى مراحل ؟! هذا والله أمر أبرم بالمدينة
ولما علموا أن أمرهم قد ظهر، وخطتهم انكشفت، قالوا لعلى: ضـعوه حيث شئتم - أى الكتـاب مصممين عـلى كذبهم - لاحـاجـة بنـا إلى هـذا الرجــل، ليـعتزلنـا، ولا شك أن هذا تسـليم منهم بـأن قصـة الكتـاب مختـلقة، وأن غرضهم الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين أو سفك دمه، الذى عصمه الله بشريعة الإسلام
محاصرة بيت الخليفة وقتله
تـشبـث الأشـرار بـهذا الكـتــاب المزور، ولم يستجيبوا لنصح الصحـابـة بالرجوع إلى بلادهم؛ لأن الخليفة لم يرتكب خطأ يستحق عليه العقاب، فحـاصروه فى بيته، ولم تكن هناك قوة تدافع عنه، فقد رفض عرضًا مـن معـاويـة بن أبـى سفيـان بـالذهـاب معه إلى الشـام، وكره أن يغـادر جوار رسول الله كمـا رفض أن يرسـل معـاويـة إليه جندًا من الشـام لحمـايته، لأنه كره أن يضيق على أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش يضايقهم فى معاشهم
و لما رأى على بن أبى طالب والزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله وغيرهم الحصـار المضروب عـلى بيت الخـليفـة؛ أرسـلوا أبناءهم لحراسته، لكنه رفض ذلك أيضًا، وأقسم عـليهم بمـا له من حق الطـاعة عــليهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويغمدوا سيوفهم، لأنه أدرك أن أبنـاء الصـحـابـة وهم عدد قـليـل، إن تصدوا لهـؤلاء الأشرار - وكـانوا زهـاء عـشرة آلاف - فـقد يـقتـلونهم جميعًا، فـآثر سـلامتهم وحقن دمـاءهم، ولعـله كـان يفكر أن الثوار إذا قتـلوه هو فستنتهـى المشكلة، فرأى أن يـضحــى بـنفـسه، حـقنًا للدمــاء، ولم يـدر أن دمـه الطــاهـر الذى سيُسفك، كـان مقدمـة لبحور من دماء المسلمين، سالت بعد ذلك نتيجة مقتله
امتثـل أبنـاء الصحابة لأمره، وعادوا إلى بيوتهم، لكنه طلب منهم ماء للشـرب، بـعد أن مـنعـه الثوار عنه، وهو الذى اشترى للمسـلمين بئر رومـة ووهبها لهم، بناء على طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الذى بشره بنهر عظيم فى الجنة. وكــانـت أم المــؤمـنيـن أم حـبيبـة بنت أبـى سفيـان أول المغيثين لعـثمــان، لكـنهـا لم تستطع أن توصـل المـاء إليه لأن الثوار منعوهـا، وأساءوا معها الأدب وسبوها، ولم يراعوا لها حرمة
فـلمـا فعـلوا بأم حبيبة ذلك، ذهب إليهم على بن أبى طالب - رضى الله عنهم - وقال لهم: إن الذى تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكــافرين، ل اتقطعوا عن الرجـل المـادة الطعـام والشراب فـإن الروم و فــارس لتــأسـر فـتطـعم و تـسقــى، و مـا تعرض لكم هذا الرجـل، فبم تـستـحـلون حصره وقتـله ؟! قـالوا: لا والله ولا نعمـة عين - يعنـى ولا قطرة ماء تصله - لا نتركه يأكل ويشرب
وبـعد ذلك اقـتحـموا عــلى الخــليفـة داره اقتحـامًا، متسـلقين من دور مجـاورة، وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن، وروعوا الأمة الإسلامية فى إمـامهـا، الذى كـانت تستحى منه الملائكة، والذى بشره النبي صلى الله عـليه وسـلم بـالجنـة، وتنبـأ له بـالشهادة، وكان استشهاده فى أواخر شهر ذى الحجة سنة 35هـ
قُتِل عثمـان بن عفان مظلومًا لم يرتكب ذنبًا أو يقترف جرمًا يستحق به أن يرفع هـؤلاء الأشرار أصواتهم عـليه ولو كان كل ما رموه به من تُهم صحيحًا - مع أنه بـاطـل ومـلفق - مـا أبـاح لهم قتـله، ولكنه الحقد الأسـود و الأفـكــار الهـدامــة، التـى زرعهـا ابن سبـأ فـى نفوسهم وعقولهم، جعلهم يرون فضائله وإنجازاته تهمًا وجرائم، فاتهموه -مثلا - بـأنه تخـلف عن بيعـة الرضوان فـى الحديبية، مع أنهم يعلمون أنه عندئذٍ كان فى مكة سفيرًا للرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بمهمـة اعتذر عنهـا عمر بن الخطـاب لخطورتهـا، وناب النبي صلى الله عــليـه وسـلم نفسه عن عثمـان فـى البيعـة، فكـانت بيعـة عن عثمـان أفضل من بيعة الصحابة لأنفسهم، كما اعتبروا جمعه للقرآن فــى مـصحف واحد جريمـة، مع أنه أعظم أعمـاله بـاعتراف الصحـابـة أنفسهم
وقد وصف أبو بكر بن العربى قتلة عثمان وصفًا صادقًا، فقال: وأمثـل مـا روى فى قصته - أى عثمان - أنه بالقضاء السابق، تألب عــليه قوم لأحقـاد اعتقدوهـا، ممن طـلب أمرًا فـلم يصـل إليه،أو حسد حسـادة أظهر داءهـا، و حمله على ذلك قلة دين، وضعف يقين، وإيثار العـاجـلة عـلى الآجلة، وإذا نظرت إليهم دلك صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم، و بطلان أمرهم
وقـد لا يـصدق بـعض النــاس أن رجــلا واحـدًا هـو عـبد الله بن سبـأ يستطيع أن يفسد أمر أمـة بكـاملها، مهما تبلغ قدراته، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إنكـار وجوده أصـلا، ولكن الواقع أن ابن سبـأ كـان موجودًا ووجوده حقيقـة، وهو كـأى متآمر خبيث يتمتع بقدر كبير من الدهـاء و المكر، مكنه من أن يستميـل إلى صفه صحـابيين جليلين هما أبو ذر الغفارى و عمار بن ياسر، وأن يستغل كل الساخطين من أبنـاء العرب الطـامعين فـى الوظـائف، بـالإضـافـة إلى الحـاقدين من أبنـاء البـلاد المفتوحـة، الذين سقطت دولهم، وبـادت عروشهم، وخلق من ذلك كـله تيارًا عامًّا، أدى إلى فتنة عارمة، ذهب ضحيتها عثمان بن عفان، ولم تنته بعد موته
هو عثمـان بن عفـان بن أبـى العـاص بن أميـة بن عبد شمس بن عبد منـاف، ولِد بعد عام الفيل بست سنوات 576م، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعـة بن حبيب بن عبد شمس،فعثمـان يلتقى فى نسبه من جهة أمه وأبيه مع النبيصلى الله عليه وسلم فى عبد مناف
صفاته
كـان ربعـة من الرجـال، ليس بـالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه أبيض مشربًا بحمرة، غزير الشعر يكسو ذراعيه شعر طويـل، طويـل اللحيـة، ومن أحسن الناس ثغرًا
أخلاقه
أجـمعـت المصـادر التـى أرخت له عـلى وصفه بسمـاحـة النفس، ورقـة المشـاعر، وكـان رضـى الخـلق، كريمًا، شديد الحيـاء، صوَّامًا قوَّامًا، محبوبًا من الناس فى جاهليته وإسلامه
وتـحدث هـو عـن نفسه فقـال: لقد اختبـأت لى عند ربـى عشرًا، إنـى لرابع أربعـة فـى الإسـلام، ولقد ائتمننـى رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم عـلى ابنته - رقيـة - ثم توفيت، فزوجنـى الأخرى - أم كـلثوم - ووالله مـا سرقت ولا زنيت فـى جـاهـليـة ولا إسلام قط ولا تغنيت، ولا تـمنيت ولا مسحت فرجـى بيمينـى منذ بـايعت رسول الله، ولقد جمعت القرآن عـلى عهد رسول الله، ولا مرت بـى جمعـة منذ أسـلمت إلا وأنا أعتق فيهـا رقبـة، فـإن لم أجد فيهـا رقبـة أعتقت فـى التـى تـليهـا رقبتين
إسلامه
أسـلم عثمـان مبكرًا، وكـان الذى دعـاه إلى الإسـلام هو أبو بكر الصديق، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يـديـه بعد إسـلام أبـى بكر مبـاشرة، ولذا كـان يقول: إنـى لرابع أربعـة فـى الإسـلام بعد أبـى بكر وخديجـة وزيد بن حـارثـة، وحرص عثمان على إسلامه أشد الحرص، على الرغم من الضغوط التى تعرض لهـا، فعندمـا عـلم عمه الحكم بن أبى العاص بإسلامه أوثقه بــالحـبـال، وقـال له: ترغب عن دين آبـائك إلى دين محدث؟ والله لا أدعك حتـى تدع مـا أنت فيه فـأجـابه عثمان: والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه
مصاهرته للرسول صلى الله عليه وسلم
تزوج عثمـان بن عفان من ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوج رقيـة، وظـلت معه حتـى تُوفيت يوم انتصـار المسـلمين فـى غزوة بدر، ولهذا لم يحضر عثمـان بدرًا، لأن الرسول صلى الله عـليه وسـلم أمره بـالبقاء معها لتمريضها، وقد عده النبي صلى الله عــليـه وســلم مـن المـدريين رغم غيـابه عن المعركـة، وفرض له فـى غنـائمهـا، ثم زوجه النبي صـلى الله عـليه وسـلم ابنته أم كلثوم، ولهذا لُقب بذى النورين، فـلمـا توفيت فـى العـام التـاسع من الهجرة؛ حزن عُثمـان حزنًا شديدًا؛ لانقطـاع مصـاهرته للنبى صلى الله عليه وسـلم، فواساه مواساة رقيقة قائلا: لو كانت لنا أخرى لزوجناكها يا عثمان
عثمان مع النبي صلى الله عليه وسلم
جــاهـد عثمـان بن عفـان منذ أن أسـلم مع النبي صـلى الله عـليه وســلم بـمــاله ونـفسـه، فـهــاجـر الهـجرتـين: إلى الحـبشـة وإلى المدينـة، وصـاحبته زوجه رقيـة بنت النبيصـلى الله عليه وسلم، وتحمل كثيرًا من الأذى
بـذل عـثمــان مـاله فـى سبيـل الله ونصرة دعوته، وكـان من أكثر قريش مـالا، فـاشترى بئر رومـة باثنى عشر ألف درهم، وجعلها للمـســلمـين فـى المدينـة، وكـانوا يعـانون من قـلة الميـاه، و غـلاء أسعارها
كمـا أنفق مـاله فـى تجهيز الجيوش وبخـاصة جيش العسرة فى غزوة تـبوك فــى العـام التـاسع من الهجرة، فقد جهز وحده ثـلث الجيش، وكــان عـدده نـحو ثـلاثين ألفًا، فدعـا له رسول الله صـلى الله عـليه وسلم بخير، وقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، قالها مرتين
وشهد عثمـان المشـاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عـدا غـزوة بدر، فقد تخـلف عنهـا بـأمر من النبيصـلى الله عـليه وسلم، وأرسله النبيإلى مكة عام الحديبية لمفاوضة قريش، بعد اعتذار عمر بن الخطـاب لرسول الله بقوله: إنـى أخشـى على نفسى من قريش لشدتى عليها وعداوتى إياها، ولكنى أدلك على رجل أمنع وأقوى بها منى، عثمان بن عفان
ولمـا أشيع أن قريشًا قد قتـلت عثمـان، قـال النبيصـلى الله عـليه وسـلم: لو كـانوا فعـلوهـا فـلن نبرح حتى نناجزهم، وبايعه أصحـابه بيعـة الرضوان تحت الشجرة، وبايع النبينفسه نيابة عن عثمـان، وقـال: إن عثمان بن عفان فى حاجة الله وحاجة رسوله وضرب بـإحدى يديه على الأخرى مشيرًا إلى أن هذه بيعة عثمان، فـكــانـت يـد النبيصـلى الله عـليه وسـلم لعثمـان خيرًا من أيديهم لأنفسهم. وكان من كُتاب الوحى كما هو معلوم
ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان
الأحــاديث الواردة فـى فضـل عثمـان بن عفـان وثنـاء النبيعـليه كثيرة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ألا أستحى من رجل تستحي منه الملائكة ؟
وكــان عـثمــان بـن عفـان قريبًا من الخـليفتين، أبـى بكر الصديق وعمر بن الخطـاب، وموضع ثقتهمـا وأحد أركـان حكومتهمـا، ومن كبـار مستشـاريهمـا، وكـان يكتب لهمـا، وهو الذى كتب كتـاب ولاية العـهد مـن أبــى بكر إلى عمر بن الخطـاب - رضـى الله عنهمـا
وترتيب عثمـان فـى الفضل بين الصحابة كترتيبه فى تولِّى الخلافة عند جمهور علماء الأمة
أهل الشورى وبيعة عثمان
لم يشأ عمر بن الخطاب أن يعهد بالخلافة إلى شخص بعينه، وقال: إن أعـهد - يـعنــى لشخص محدد - فقد عهد من هو خير منـى - يقصد أبـا بكر عندما عهد إليه هو نفسه - وإن لم أعهد فلم يعهد من هو خير منـى - يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تركها شورى بين المسلمين
ولعــل اجتهـاده أدَّاه إلى أن تصرف الرسول وأبـى بكر يعطـى له الفرصـة أيضًا أن يختـار طريقـة أخرى لاختيـار من يخلفه، ليثرى بذلك طرق الاختيـار، وليرسخ فى أذهان الناس أن أمر اختيار الحاكم منوط دائمًا بـالأمـة وإرادتهـا ورضـاها، وهى التى تملك محاسبته وعزله إن ارتكب ما يوجب العزل
رشح عمر بن الخطـاب ستـة من الصحـابة، ليتولى واحد منهم منصب الخـلافـة، ولم يـأمر أحدًا منهم أن يصـلى بـالنـاس إمامًا، حتى لا يظن النـاس أنه يميل إليه، بل أمر صهيبا أن يصلى بالناس، لتكون فرصتهم فـى الاختيار متساوية، وشدد على ألا تمضى ثلاثة أيام بعد وفاته إلا ويكون عـليهم أمير من هـؤلاء الستـة يتولى مسئولية الخلافة ويتحمل تبعاتها
وبعد أن فرغ المسـلمون من دفن عمر، شرع المرشحون الستـة فى التفـاوض، وبعد نقـاش طويـل اقترح عليهم عبد الرحمن بن عوف أن يتنازل عن حقه فى الخلافة. ويتركوا له اختيار الخليفة، فوافقوا على ذلك، فشرع فى معرفة آرائهم واحدًا بعد واحد على انفراد، فرأى أن الأغـلبيـة تميل إلى عثمان، ثم أخذ يسأل غيرهم من الصحابة، فلا يخلو به رجل ذو رأى فيعدل بعثمان
اطـمــأن عـبد الرحـمن إلى أن الأغـلبيـة تزكـى عثمـان بن عفـان فـأعـلن ذلك عـلى مـلأ من الصحـابـة فى مسجد النبي صلى الله عليه وســلم، ولمــا كــان يـعــلم أن الذى يـلى عثمـان فـى المنزلة عند الصحـابـة، هو عـلى بن أبى طالب، الذى مال إليه عدد منهم، فإنه رأى أن يـوضـح له أن الأغــلبـيــة مع عثمـان، فقـال له: أمـا بعد يا على، فإنى نظرت فى الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن عـلى نفسك سبيـلا - كأنه يحذره من المخالفة- ثم أخذ بيد عثمان، فـقــال: نـبـايعك عـلى سنـة الله ورسوله، وسنـة الخـليفتين بعده، فبـايعه عبد الرحمن، وبـايعه المهـاجرون والأنصـار؛ ولم يتخلف أحد عن بيعته من الصحابة، وكان ذلك بعد وفاة عمر بثلاثة أيام
خطبة البيعة
اسـتقبـل عثمـان بخـلافته أول المحرم سنـة 24هـ، وصعد المنبر بعد تمـام البيعة، وخطبهم قائلا -بعد حمد الله والصلاة على رسوله-: إنكم فـى دار قلعة -أى دار الدنيا - وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه.. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنـيــا، ولا يـغرنـكم بــالله الغـرور، اعتبروا بمـا مضـى، ثم جدوا ولا تـغفــلوا، فــإنـه لا يـغفُل عـنكـم، أين أبنـاء الدنيـا وإخوانهـا: الذين أثـاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم ؟ ارموا الدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة
وأول مــا يُلاحـظ عــلى الخـطبــة الأولى، التـى افتتح بهـا عثمـان خــلافته، خـلوهـا من الإشـارة إلى المنهج الذى سيسير عـليه، ولعـله اكتفـى بمـا قـاله لعبد الرحمن بن عوف لحظـة البيعـة، من أنه سيعمـل بكتاب الله، وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين بعده
كتبه إلى العمال والولاة
كتب عثمـان - رضى الله عنه - فى الأيام الأولى من خلافته عددًا من الكتب إلى الولاة وأمراء الجند، بل وإلى عامة الناس، تتضمن نصائحه وإرشاداته، يقول الطبرى: أول كتاب كتبه عثمان إلى عماله أمـا بعد فـإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة - يرعون مصالح الأمة - ولم يـتقـدم إليهم - أى لم يطـلب منهم - أن يكون جبـاة، وإن صدر هذه الأمــة خـلقوا دعـاة، ولم يخـلقوا جبـاة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جـبــاة ولا يـكونوا دعـاة، فـإن عـادوا كذلك انقطع الحيـاء والأمـانـة والوفـاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فـى أمور المسـلمين فيمـا عــليـهم، فتعطوهم مـالهم، وتـأخذوهم بمـا عـليهم، ثم تثنوا بـالذمـة، فـتعـطوهـم الذى لهـم، وتــأخـذوهـم بــالذى عــليـهم، ثم العدو الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء
وكـتب إلى أمـراء الأجـنـاد وقـادة الجيوش: أمـا بعد، فـإنكم حمـاة المسلمين و ذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملإ منـا، فـلا يبـلغنـى عن أحد منكم تغيير ولا تبديـل، فيغير الله ما بكم، ويـستـبدل بـكم غـيركـم، فـانظروا كيف تكونون، فـإنـى أنظر فيمـا ألزمنى الله النظر فيه، والقيام عليه
وكتب إلى عمال الخراج المسئولين عن الشئون المالية: أما بعد فإن الله خـلق الخلق بالحق، ولا يقبل إلا الحق، خذوا الحق، وأعطوا الحق، والأمـانـة الأمـانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها.. والوفاء الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم
وكتب إلى عـامة الرعية: أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتبـاع، فـلا تفتنكم الدنيـا عن أمركم، فإن أمرهذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع
وهذه الكتب توضح سيـاسـة عثمـان بن عفـان العـامـة، التـى كـان يتوخـى أن يتبعها عماله وولاته فى إدارة شئون الأمة، وهى سياسة طـابعهـا الرفق بـالرعيـة، والسهر على مصالحها، والإنصاف فى جمع الخراج، وإيصـال الحقوق إلى أصحـابهـا، والإحسان إلى أهل الذمة، ورعاية جميع طوائف الأمة
الفتوحات فى عهد عثمان بن عفان
المسلمون والفرس
كـان عمر بن الخطـاب قد أمر المسـلمين بـالانسيـاح فى بلاد فارس بـعد مـوقـعــة نـهــاوند سنـة 21هـ وكـلمـة الانسيـاح من تعبيرات المـؤرخين القدماء، وهى تدل على سهولة الفتح بعد نهاوند؛ إذ لم
يلق المسلمون هناك مقاومة تذكر
وقـد نجح قـادة الجيوش التـى أرسـلهـا عمر فـى فتح المقـاطعـات الفــارسـيــة كـهمـذان، وخـراســان وأذربـيجــان، واصطخر، وأصـبهـان، وكـان أمراؤهـا الفرس قد رأوا عدم جدوى المقـاومـة، فسـلموا بـلادهم عـلى شروط المسـلمين، وقبـلوا دفع الجزية، ووقعت مـعهـم مـعـاهدات، هـى آيـة فـى الرحمـة والعدل والتسـامح، من ذلك معاهدة عتبة بن فرقد لأهل أذربيجان
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا مـا أعطـى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطـاب أمير المـؤمنين أهـل أذربيجـان : سهـلهـا وجبـلهـا وحواشيها و شفـارهـا، وأهـل مـللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم و شرائعهم، عـلى أن يـؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبى ولا امرأة ولا زمن مريض - ليس فـى يديه شـىء من الدنيـا، ولا متعبد مـتخــل ليـس فــى يـديـه شــىء من الدنيـا لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعــليـهم قِرَى المـسـلم من جنود المسـلمين يومًا وليـلة ودلالته - عـلى الطريق -ومن حشر منهم - أى من يُستعـان به فـى خدمات الجيش - فى سنـة، وضع عنه جزاء تـلك السنـة - أى لا يدفع جزيـة - ومن أقـام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه
وبعد مقتـل عمر نقضت معظم المقـاطعـات الفـارسيـة معاهداتها مع المسـلمين، ظنا من أمرائها أن فى مقتل عمر فرصة لطرد المسلمين مـن البــلاد التــى فـتحـوهــا، فوقف عثمـان بن عفـان لهذه الثورة وقضـى عليها، كما فعل أبو بكر حيث قمع الردة فى شبه الجزيرة العربيـة، وأعـاد إليهـا وحدتهـا الدينيـة والسيـاسيـة، وأخذ عثمان يـجهـز الجيوش، ويصدر أوامره إلى أمراء الأمصـار الوليد بن عقبـة فــى الكوفـة، و عبد الله بن عـامر فـى البصرة، للتصدى بحزم لحركة الردة الفارسية، وإعادة الفرس إلى الطاعة والنظام
وكـانت إعـادة فتح تـلك المقـاطعات أصعب من فتحها الأول فى عهد عـمر بـن الخـطــاب؛ لأنـهــا حـينـذاك سـلمت بدون قتـال تقريبًا بعد هزيمتهم فـى نهـاوند فـى حين بذل المسـلمون فـى عهد عثمان جـهدًا كـبيـرًا، وخـاضوا معـارك شرسـة فـى بضع سنوات 24 - 31هـ لإعـادة فتح بـلاد فـارس مرة أخرى، وقد شهدت تـلك المعـارك الفصل
الأخير من حيـاة آخر مـلوك آل ساسان يزدجرد الثالث، حيث لقى مصرعه عـلى يد رجـل فارسى فى مرو سنة 31هـ، وبموته طويت صفحة دولة فارس من التاريخ
ومـمـا يجدر ذكره ويثير الإعجـاب أن المسـلمين لم يقسوا عـلى الفرس ولم يـنكــلوا بـهم بـعد ثـورتـهم وخـروجـهم، بـل قبـلوا اعتذارهم، ولم يـفرضـوا عــليـهم التـزامــات جـديـدة، واستمروا فـى معـامـلتهم طبقًا للمعاهدات الأولى
وبدأت بـلاد فـارس تشهد تاريخًا جديدًا تحت راية الإسلام، يملؤه العدل والتسامح والرحمة، وأسلمت الأمة الفارسية، وأصبحت جزءًا مهما من العالم الإسلامى وأسهمت إسهامًا كبيرًا فى بناء الحضارة الإسلامية
المسلمون والروم فى عهد عثمان
بـعد وفــاة عـمر بن الخطـاب، قـام الروم بمحـاولة لطرد المسـلمين، فهـاجموا الشـام - فـى السنة الأولى من خلافة عثمان بقوات كبيرة مـن آسـيــا الصـغيـرة، جـعـلت والى الشـام القدير معـاويـة بن أبـى سفيـان يطـلب المدد من عثمـان بن عفان، الذى أمر بتحريك قوات من العراق لنجدة الشام
وكـتب عـثمــان بـن عفـان إلى والى الكوفـة الوليد بن عقبـة كـتـابًا يقول فيه: أمـا بعد فـإن معـاويـة بن أبـى سفيـان كتب إلىَّ يـخبـرنــى أن الروم قـد أجــلبت عـلى المسـلمين بجموع عظيمـة - أى هـاجمت - وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهـل الكوفـة، فـإن أتـاك كـتــابــى هـذا، فــابـعث رجـلا ممن ترضـى نجدته وبـأسه وشجـاعته وإسـلامه، فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف، إليهم من المكان الذى يأتيك فيه رسولى، والسلام
ولمـا بـلغ الكتـاب والى الكوفـة، جمع النـاس وخطب فيهم وأبلغهم أمر الخـليفـة، وقـال: قد كتب إلىَّ أمير المـؤمنين يـأمرنـى أن أندب مـنكم مـا بين العشرة الآلاف إلى الثمـانيـة الآلاف، تمدون إخوانكم من أهـل الشـام، فـإنهم قد جـاشت عـليهم الروم، وفى ذلك الأجر العظيم والفضـل المبين، فـانتدبوا رحمكم الله مع سـلمـان بن ربيعـة الباهلى، فـانتدب الناس، فلم يمض ثالثة - أى ثلاثة أيام - حتى خرج ثمانية آلاف رجـل من أهـل الكوفـة، فمضوا حتـى دخـلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهرى، وعلى جند أهـل الكوفـة سـلمان بن ربيعة، فشنوا الغارات على أرض الروم، فـأصاب الناس م اشاءوا من سبى، وملئوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصونًا كثيرة
محاولات الروم العودة إلى مصر
لم يكف الروم عن محـاولاتهم الهجوم عـلى المسـلمين، عـلى الرغم من هزيمتهم فى الشام، وما إن اعتلى الإمبراطور قنسطانز الثانى 22 - - 48هــ =642 - 668م حـتــى سـيطـرت عــليـه فـكرة اسـترداد الشـام و مصر من أيدى المسـلمين، كمـا استردهـا جده هرقل من الفرس قبل سنوات قليلة من الفتح الإسلامى، فأرسل فى سنة 25 هـ = 645 م حـمــلة بـحريـة كبيرة إلى مصر، بقيـادة مـانويـل، تمكنت من الاسـتيــلاء عــلى الإسـكندريـة، بمسـاندة من بقـى فيهـا من الروم والإغـريـق، وبـدأت تـتوغـل جنوبًا قـاصدة حصن بـابـليون، فكـلف الخـليفـة عثمان قائده عمرو بن العاص بمهمة الدفاع عن مصر وطرد الروم، وكـان عمرو قد أعفى من ولايتها بناء على طلبه فى مـطــلع خــلافـة عثمـان، فـلم يتردد الفـاتح الكبير فـى العودة إلى مـصر للقـيــام بهذه المهمـة، ونجح فـى طرد الروم نهـائيـا، بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة، وقتل مانويل قائد حملتهم
استمرار فتح شمال إفريقيا فى عهد عثمان
لمــا ولى عـبد الله بـن سـعد بن أبـى السرح ولايـة مصر من قبـل عثمان بن عفان؛ كتب إليه أن الروم الذين لا يزالون يسيطرون على شـمــال إفـريـقيــا يـغيـرون عـلى حدود مصر الغربيـة، ولابد من مـواجـهتـهم قـبــل أن يـتجـرءوا ويـهـاجموا مصر نفسهـا، فـاقتنع عـثمــان بعد أن استشـار كبـار الصحـابـة، وأذن له بتجريد حمـلات عسكريـة لردعهم وكف عدوانهم، كمـا أرسل إليه جيشًا من المدينة مددًا، يضم عددًا من الصحابة كابن عباس، وعبد الله بن الزبير رضى الله عنهما
وفـى سنـة 27هـ = 647م انطـلق جيش المسـلمين بقيادة عبد الله بن سـعد، وتـوغــل غربًا حتـى وصـل إلى قرطـاجنـة عـاصمـة إقـليم تـونـس فــى ذلك الوقـت، ودارت عـدة مـعـارك بين المسـلمين وبين مـلكهـا جريجوار أوجرجير كمـا تسميه المصـادر العربيـة، انتهت بــانـتصــار المـســلمـين وقتـل المـلك جريجوار عـلى يد عبد الله بن الزبير
ولم تكن تـلك الحمـلة تهدف إلى الاستقرار، بل إلى ردع العدوان، ولذا اكتفـى عبد الله بن سعد بعقد معـاهدات صـلح مع زعمـاء تلك البلاد تعهدوا فيها بدفع مبلغ كبير
وبـعد عـودة عـبد الله بـن سعد إلى مصر، قـام بفتح بـلاد النوبـة جـنوبًا سـنــة 31هــ = 651م، وعــلى الرغـم من أنهـا لم تخضع بـلاد النوبـة للمسـلمين، فـإنها انتهت بعقد صلح بين الطرفين، اتفقا فيهعلى تبادل التجارة والمنافع
نشأة الأسطول الإسلامى
يُعد إنشـاء الأسطول الحربـى الإسلامى من أعظم الإنجازات التى تمت فـى عهد أمير المـؤمنين عثمـان بن عفان فبعد الفتوحات الإسلامية فــى مـصر والشــام وجـد المـسـلمون أنفسهم قد سيطروا عـلى الشواطئ الشرقيـة والجنوبيـة للبحر المتوسط، الذى كان يُعرَف وقتئذٍ ببحر الروم، لأن سيطرتهم عـليه كـانت كـامـلة، ولم تنـازعهم فـى ذلك دولة أخرى؛ ولذا كـان المسـلمون فـى حـاجة إلى قوة بحرية تمكنهم من الحفاظ على شواطئهم ضد هجمات الأسطول البيزنطى
وكـان أول من تنبه إلى ذلك معـاويـة بن أبى سفيان والى الشام؛ لأنه اضطـلع بفتح سواحـل الشـام، مثل: صور، وعكا، وصيدا، وبـيروت مـنذ عـهد الخــليـفتـين أبــى بـكر الصـديـق وعـمر بن الخطـاب، وواجه صعوبات كثيرة فى فتح تلك المدن، لقوة تحصينها من نـاحيـة، وتوالى الإمدادات التـى تأتيها من البحر من ناحية أخرى، كما أنها كانت محطات للأساطيل البيزنطية
ولمـا أدرك معـاويـة أنه بدون قوة بحريـة إسـلاميـة فلن يتمكن من الدفـاع عن كـل السـاحل الشامى، فعرض الأمر على الخليفة عمر بن الخطـاب، مصورًا له حجم الخطر بقوله: يا أمير المؤمنين، هناك قرية مـن قـرى الروم - يـقصـد جـزيـرة قـبرص - فــى عـرض البحر، تتخذهـا أسـاطيـلهم قـاعدة للعدوان علينا، وهذه القرية قريبة من حدودنا إلى درجة أن أهل حمص - من مدن الشام - يسمعون نباح كلابها وصياح دجـاجهـا، فـأذن لنـا ببناء أسطول حربى بحرى، لكن عمر رفض ذلك رفـضًا قــاطـعًا؛ لخـوفه عـلى المسـلمين من أهوال البحـار، وأن الوقت لا يزال مبكرًا للدخول فـى هذا المجـال، وقـال لمعاوية: لمسلم واحـد أحـب إلى مـمـا حوت الروم، يقصد أن سـلامـة المسـلمين عنده مقدمـة على أى شىء آخر، وطلب من معاوية أن يستعيض عن ذلك بتقويـة حصون السواحـل، فـامتثـل معاوية، لكنه لم يفقد الأمل فى تحقيق ما يصبو إليه
بناء الأسطول
بـادر معـاويـة بن أبى سفيان بعد تولى عثمان بن عفان الخلافة سنـة 24 هـ إلى عرض مشروعه القديم عـليه، الذى يقضـى بـإنشـاء أسطول بحرى، لكن عثمـان رفض فـى البدايـة، وذكره بمادار بينه وبين عمر بن الخطـاب فـى ذلك الشـأن، وأنه حريص عـلى سـلامـة المـسـلمين كحرص عمر من قبـل لكن معـاويـة ألح عـليه إلحـاحًا شديدًا، وكـان أجرأ عليه من عمر، ولم يكف عن المحاولة حتى ظفر مـنه بــالإذن، وكــان إذنًا مـشروطًا، بـألا يُكره أحدًا من الجنود عـلى العمل فى الأسطول
بدأ معـاويـة بن أبـى سفيـان يعمل على الفور فى بناء الأسطول، مـتعــاونًا مـع عـبد الله بـن سـعد بـن أبــى السـرح، والى مصر، ومستثمرًا كـل الإمكانات المتاحة والصالحة لصناعة السفن فى مصر والشــام، حيث كـانت فـى مصر دور قديمـة لصنـاعـة السفن، وعدد كبير من العمـال المهرة المدربين، وأشجار السنط التى تصلح لعمل الصوارى وضـلوع السفن، وكانت الشام تتمتع بكثير من المواد اللازمة مثـل أخشـاب الصنوبر والبـلوط والعرعر، وأدى هذا التعـاون بين مصر والشام إلى بروز الأسطول الإسلامى وظهوره
فتح جزيرة قبرص سنة 28هـ:
كــان أول عـمــل بحرى نـاجح قـام به الأسطول الإسـلامـى، هو فتح جزيرة قبرص التـى كـانت تهدد شواطئ المسلمين باستمرار لقربها مـنهــا من نـاحيـة، وبـاعتبـارهـا محطـة مهمـة من محطـات الأسـاطيـل البيزنطية من ناحية أخرى
وقد غزاها معاوية سنة 28هـ، أى بعد أربع سنوات فقط من بناء الأسـطول الإســلامــى، وهــى مـدة ليست بـالطويـلة لإنشـاء أسطول بحرى،ولكنها عزيمة الرجال وإصرارهم على إنجاز العمل
وكــانـت الغزوة مشتركـة أسهمت فيهـا قوات الشـام، وقوات مصر بقيـادة عبدا لله بن سعد، ونزلوا قبرص واستولوا عـليها، فعرض أهلها الصلح، فقبل معاوية، واشترط لعقده عدة شروط
- أن يدفع أهل قبرص جزية سنوية، مقدارها سبعة آلاف دينار
- وأن يُعــلمـوا المـسـلمين بـأيـة تحركـات عدائيـة من جـانب الروم ضد
سواحلهم
- وأن يقف أهـل قبرص عـلى الحيـاد، إذا نشبت حرب بين المسلمين والروم، ولكـن لا يـمنـعون المسـلمين من المرور بجزيرتهم إذا احتـاجوا إلى ذلك
ولم يــلتزم أهـل قبرص بمـا تعـاهدوا عـليه فـى الصـلح، ممـا جعـل
معـاويـة يعـاود غزو الجزيرة مرة أخرى سنـة 33هـ ويضمهـا إلى دولة الخــلافــة، وينقـل إليهـا اثنـى عشر ألفًا من المسـلمين من أهـل الشام، وأسكنهم فيها، وبنى لهم الدور والمساجد
موقعة ذات الصوارى سنة 34هـ:
أثـار بروز الأسطول الإسـلامـى فـى البحر المتوسط حفيظة قنسطانز الثانى الإمبراطور البيزنطى، و جعله يفكر فى القضاء على الأسطول الإسـلامى وتحطيمه، قبل أن تكتمل قوته، ويزداد خطره، وحتى تظل السـيطـرة عــلى البـحر المـتوسـط للأسـطول البـيزنطـى وحده دون غيره، فعبـأ الإمبراطور قواته البحرية كلها، واتجه بها قاصدًا سواحل الشـام، وهو لا يراوده شك فـى قدرته عـلى تدمير السفن الإسـلاميـة؛ لحـداثــة نشـأتهـا، وقـلة خبرة رجـالهـا، لكن المسـلمين استعدوا لهذا اللقـاء جيدًا وتعاون الأسطولان فى مصر والشام، لرد هذا العدوان، وأسندت قيادتهما إلى عبد الله بن سعد والى مصر. و التقى الأسطولان الإسلامى و البيزنطى - الذى كان بقيادة الإمبراطور نـفسـه - فــى شـرقــى البـحر المـتوسـط، جنوبـى شـاطئ آسيـا الصغرى تركيـا الحـالية، ودارت بينهما معركة بحرية كبيرة، سُميت بـمعـركـة ذات الصوارى، لكثرة السفن التـى اشتركت من الجـانبين خمسمـائـة سفينـة من جـانب الروم، مقـابـل مـائتـى سفينـة من جانب المـسـلمين وانتهت المعركـة بنصر عظيم للمسـلمين، وهزيمـة سـاحقـة للأسطول البيزنطى، و نجاة الإمبراطور من القتل بأعجوبة
ونتيجـة لهذه الهزيمـة لم يرجع الإمبراطور إلى عاصمة القسطنطينية بـعد المـعركــة، وإنـمــا ذهـب إلى جـزيرة صقـليـة، قبـالة شـاطئ تونس، فـى محـاولة منه لحماية ما تبقى من دولة الروم فى شمال إفريقيا، لكنه قتل فى صقلية سنة 68هـ = 688م
مصحف عثمان
إذا كـان لعهد عثمـان بن عفان - رضى الله عنه - أن يفخر بما أنجز فيه من الأعمـال العظيمـة؛ فإن له أن يفخر بما هو أعظم منها جميعًا، وهو جمع القرآن الكريم على لغة واحدة. للقرآن صورتـان صورة صوتيـة مقروءة، وأخرى مكتوبة مدونة، وقد حرص الرسول صـلى الله عـليه وسلم على تدوين الآيات فور نزولها، وقبـل انتقـاله إلى الرفيق الأعـلى راجع مع جبريـل - عـليه السلام ترتيب الآيات والسور مرتين. وقد حفظ الصحـابـة القرآن بـاللهجـات التـى درجوا عـليها، وأجاز لهم النبي صــلى الله عــليه وسـلم ذلك، و لذا ظهر الاختـلاف فـى وجوه القراءة بين الصحـابـة من بدء نزول القرآن، نتيجة للهجة التى اعتادها
اللسان
ولما جُمِعَ القرآن الكريم الجمع الأول فى الصحف فى عهد أبى بكر بهيئته المكتوبـة، بقيت الصورة الصوتيـة كمـا هـى، و لمـا فُتحت البلاد وتـفرق الصـحـابـة فيهـا، أخذ أهـل كـل إقـليم يقرءون القرآن بقراءة الصحـابـى أو الصحـابـة الذين عـاشوا بينهم، فتمسك أهـل الكوفة بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهـل الشـام بقراءة أبـى بن كعب، وأهــل البـصرة بـقراءة أبــى مـوســى الأشـعرى، و مع اتسـاع الفتوحـات، زاد الخلاف بين المسلمين حول قراءة القرآن، وتحول الأمر إلى تعصب، بـل كـاد أن يؤدى إلى فتنة بينهم، مما أفزع حذيفة بن اليمـان الصحـابـى الجـليل، وكان يقرأ فى أذربيجان، فرجع إلى
المدينة، وأخبر عثمان بن عفان بما رأى
جـمع عـثمـان الصحـابـة، و أخبرهم الخبر، فـأعظموه، ورأوا جميعًا مـا رأى حذيفـة من ضرورة جمع النـاس عـلى مصحف واحد، وأرسل عثمـان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر أن تبعث إليه بالمصحف الذى جُمع فـى عهد أبـى بكر - وكـان عمر بن الخطاب قد أخذه بعد وفـاة أبـى بكر، ثم حُفظ بعد موته عند ابنته حفصـة- ثم أمر زيـد بـن ثـابت - الذى جمع القرآن الجمع الأول فـى عهد أبـى بكر الصديق - و عبد الله بن الزبير، و سعيد بن العـاص، و عبد الرحمن بن الحـارث بن هشـام، أن ينسخوه، وقـال لهم: إذا اختـلفتم - يعنـى فـى كلمة أو كلمات- فاكتبوها بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، فـلمـا نسخوه، أرسـل إلى كـل إقـليم مصحفًا وأمر بـإحراق ما سوى ذلك، و قد سمى هذا المصحف بالمصحف الإمام أو مصحف عثمان
الفتنة وأسبابها
سـارت الأمور فـى الدولة الإسـلامية على خير ما يرام فى الشطر الأول من خـلافة عثمان - رضى الله عنه - 24 - 30هـ، و لكن مع بداية سنة 31هـ هبت عـلى الأمـة الإسـلاميـة ريـاح فتنة عاتية، زلزلت أركانها، وكــلفـتهـا تضحيـات جسيمـة، واستمرت هذه الفتنـة نحو عشر سنين، شمـلت مـا تبقى من خلافة عثمان بن عفان، وكل زمن خلافة على
بن أبى طالب -رضى الله عنهما- 31-40هـ
وممـا لاشك فيه أن تـلك الفتنـة كـانت نتيجـة لمـؤامرة واسعـة النطاق كـانت أحكم فى تدبيرها، وأوسع فى أهدافها، وأخطر فى نتائجها من مـؤامرة اغتيـال عمر بن الخطـاب - رضـى الله عنه -، لأن اغتيال عـمر لم يـخــلف آثــارًا خـطيـرة بـين المـسـلمين، ولم يقسمهم شيعًا وأحـزابًا كمـا حدث فـى آخر عهد عثمـان، ولأن الذين خططوا لقتـل عمر والذين قـاموا بتنفيذ ذلك كـانوا غير مسـلمين وغير عرب، فى حين أن الذين قتـلوا عثمـان وعليا من بعده كانوًا عربًا مسلمين، وهذا هو وجه الخطورة، حتى وإن كان التخطيط من غيرهم
و الذى لاشـك فـيه أن الذى تـولى التـخطيط للفتنـة، وقتـل عثمـان، وإغراق الأمـة فـى بحر من الدمـاء، هو عبد الله بن سبـأ اليهودى، الذى ادعـى الإسـلام؛ ليتمكن من الكيد له من داخـله، و الذى لُقِّب بـابن السوداء
وقبـل الحديث عنه يحسن تنـاول الظروف والأجواء التـى كانت سائدة فـى عهد عثمـان - رضـى الله عنه - واستغـلهـا ابن سبـأ لتحقيق أهدافه المدمرة
أولا: تغيرت الظروف فـى آخر حيـاة عثمـان بـل وفـى بداية خلافته عمـا كـانت عـليه فى خلافة عمر بن الخطاب، وربما كان هذا تطورًا طبيعيـا فـى حيـاة الأمـة، فقد كثرت الغنائم فى أيدى الناس، و بدءوا يتوسعون فـى المـأكـل والمـلبس والمشرب، وبخاصة الجيل الجديد من العرب الذى دخـل فـى الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتـأدب بـآدابه، ولم يتعود حياة القناعة والقصد فى المعيشة التى كان يحياها الصحابة فى حياته صلى الله عليه وسلم
ولم يُرضِ ذلك التوسع فـى المعيشـة صحـابيا جليلا اشتهر بالزهد، هو أبو ذر الغفـارى، فسخط عـلى عثمـان وولاته وعمـاله، وحمـلهم مـسئوليـة ذلك التطور الاجتمـاعـى الطبيعـى الذى لم يكن من صنعهم، وراح ينـادى بتحريم امتـلاك المسـلم لشـىء من المال فوق حاجة يومه وليــلتـه، واسـتشـهد عــلى ذلك بقوله تعـالى: [والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة 34
ولم يوافق أحد من الصحـابة أبا ذر فيما نادى به، وكانوا يرون أن المــال إذا جُمع من حـلال، وأدى عنه صـاحبه حق الله وهو الزكـاة: لا يعتبر كنزًا، ولا تنطبق عـليه الآيـة موضع الاستشهـاد، والنبي صـلى الله عـليه وسـلم كـان يخزن مـؤنـة بيوته لمدة سنـة إذا كانت الظروف تسمح بذلك، وتشريع الله للمواريث فى نظام دقيق يقتضى ترك الميت ثروة تقسم بين ورثته، وكثير من الصحـابـة كـانوا أغنيـاء عـلى عهد النبي صـلى الله عـليه وسـلم، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ثراءهم، بـل يُروى أنه قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح - مسند أحمد
وقد نصح النبي صـلى الله عـليه وسـلم سعد بن أبى وقاص حين أراد أن يتصدق بمـاله كـله بقوله: إنك إن تذر ورثتك أغنيـاء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس - صحيح البخارى، كتاب الجنائز
و لو أن أبا ذر الغفارى - رضى الله عنه - احتفظ برأيه لنفسه، لكان الأمر هينًا، ولكنه أذاعه فـى الناس؛ ووجد صداه عند الكسالى والذين يريدون أن يعيشوا عـالة عـلى غيرهم، فـألبوا النـاس عـلى عثمان و ولاته، وكانت تلك الدعوة سببًا من أسباب الفتنة
وعـلى الرغم من اعتزال أبى ذر الناس فى الربذة شرقى المدينة امتثـالا للخـليفـة؛ فـإن دعوته كانت قد استشرت، وتلقفها ابن سبأ اليهودى وأشعلها بين الناس
ثــانـيًا: شــارك عـدد كـبير من أهـل اليمن ومنطقـة الخـليج فـى الفتوحـات الإسـلامية، وكان دورهم فى تحقيق النصر لا ينكر، ولكنهم وجـدوا بـعد الفـتح أن الإمــارات والوظــائف الرئيسيـة قد أُسندت إلى غيرهم و بخاصة أبناء قريش، و كبار المهاجرين و الأنصار وأبنائهم، فــلم يـعجـبهـم ذلك، و رأوا أنـفسـهم أحـق بـالإمـارات التـى فتحوهـا بسيوفهم، مع أنه كـان من الضرورى أن يتولى المهـاجرون والأنصـار هـذه الولايـات؛ لأنهم يعرفون الإسـلام وشرائعه أكثر، فقدمهم عـلمهم
وفقههم فـى الدين وسـابقتهم فـى الإسـلام، و جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنسابهم وأحسابهم
ونـتيجـة لذلك تكونت جبهـة عريضـة من أبنـاء تـلك المنطقـة معـارضـة لسيطرة أبنـاء المهـاجرين والأنصـار عـلى الدولة الإسـلامية، و لم تكن شكواهم من الولاة واتهـامهم بـالظـلم حقيقيـة، بـل كـانت ذريعة للنيل منهم، و من الخـليفـة عثمـان، و هدفًا لقلب الدولة و تغيير نظام الحكم المتهم بـالظـلم، وهـؤلاء كـانوا صيدًا سمينًا لابن سبأ فاستغل السخط الذى ملأ قلوبهم لتحقيق هدفه الشرير
ثالثًا: عندما بدأت هذه الفتنة كان معظم ولاة الأقاليم من قريش، بل من بنى أمية أهل عثمان، وأقربائه، مما سهل على ابن سبأ مهمته فـى إشعـال نـار الفتنة، و الحق أن هؤلاء الولاة، و هم معاوية بـن أبـى سفيـان والى الشـام، و عبد الله بن سعد بن أبـى السرح والى مـصر، وعـبد الله بـن عــامـر والى البـصرة، والوليد بن عـقبـة والى الكوفـة، كـانوا من خيرة الولاة، وممن أسهموا فـى تثبيت الفتوحـات الإسلامية بعد استشهاد عمر، وممن مارسوا الحكم قبـل خـلافـة عثمـان، بـل إن معـاويـة بن أبى سفيان كان واليًا عـلى الشـام من عهد أبـى بكر الصديق. ومن ثم لم يولِّهم عثمـان لهوى فـى نفسه، أو لأنهم من أقربائه، بل ولاهم لكفايتهم ومقدرتهم الإدارية
ومـمــا يــؤسـف له أن بعض الكتـاب الكبـار صوَّروا الأمر عـلى غير مـا تقتضيه الحقيقـة التـاريخيـة، وكـأن عثمـان بن عفـان أتـى بهـؤلاء الولاة مـن قــارعـة الطريق، وعينهم عـلى الولايـات الكبيرة، وحمـلهم عـلى رقـاب الناس؛ لأنهم أقرباؤه فحسب. ويذهب بعضهم إلى تصوير أمـر استعفـاء عمرو بن العـاص من إمـارة مصر بنـاء عـلى طـلبه عـلى أنه عزل من عثمـان ليعين مكـانه أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد، ولا يذكر شيئًا ممـا يعرضه مـؤرخو مصر الإسـلامية كابن عـبد الحـكم و الكـندى، مـن أن عـبد الله بن سعد كـان واليًا عـلى صـعيـد مـصر من قبـل عمر بن الخطـاب، فـلمـا تولى عثمـان بن عفـان الخـلافـة طـلب منه عمرو بن العاص أن يخصه وحده بإمارة مصر كـلهـا، فرفض عثمـان، فـاعتزل عمرو الولايـة بناء على طلبه، ولم يعزله عثمان بن عفان
رابعًا: أن من أبنـاء البلاد المفتوحة وبخاصة بلاد فارس، من لم يسترح إلى سيـادة العرب عـليهم، وسيطرتهم عـلى بلادهم، و هم الذين كانوا بـالأمس يحتقرونهم وينظرون إليهم فـى استعـلاء، فعزَّ عـلى أنفسهم ذلك، فـلم يتركوا فرصة لزعزعة الدولة الإسلامية إلا و انتهزوها، خاصة مـن لم يـتمكن الإسـلام فـى قـلوبهم منهم، وهـؤلاء كـان لهم دور فـى إثارة الفتنة على عثمان، واستمر حتى آخر العصر الأموى
خـامسًا: أن كـل ما تقدم كان يمكن تداركه وعلاجه، بل إن عثمان - رضـى الله عنه - حاول إجابة كل مطالب الثائرين عليه والمؤلبين للناس ضده، لكنهم لم يقتنعوا؛ لأن الخـليفـة لان معهم وحـلُم عـليهم أكثر مما كــان يـنبغـى، ولو أخذهم بـالشدة والحزم كمـا كـان يفعـل عمر بن الخطاب مع أمثالهم لارتدعوا، ولحُسمت الفتنة
عبدالله بن سبأ
هـو رجــل يهودى من صنعـاء ادعـى الإسـلام فـى عهد عثمـان، وأخذ يبث فـى المسلمين أفكارًا غريبة وبعيدة عن الإسلام، مثل قوله بـالوصيـة أى أن عـلى بن أبـى طـالب، هو وصى النبي صلى الله عـليه وسـلم وخـليفته من بعده، ومعنـى ذلك أن الخلفاء الثلاثة، أبا بكر وعمر وعثمان اغتصبوا حق على فى الخلافة
وبـدأ ابـن سـبـأ من هذه النقطـة، مستغـلا كـل الأطراف التـى سبق الحـديـث عـنهــا، ووضع للثـائرين والنـاقمين عـلى اختـلاف مشـاربهم وأهدافهم خطـة للتحرك ضد الخـليفـة وولاته، وأشـار عليهم بالنيل من الولاة أولا؛ لمـا كـان يعرف أن عثمـان نفسه فوق الشبهـات، حتى إذا نجحوا فـى تشويه سمعـة الولاة، انتقـلوا إلى عثمـان باعتباره المسئول الأول عنهم، ومما قاله لأتباعه: إن عثمان أخذها بغير حق، وهـذا وصــى رسـول الله - يـقصـد عــليًّا - فــانـهضـوا فــى هذا الأمر
فـحركـوه، وابـدءوا بـالطعن فـى أمرائكم، وأظهروا الأمر بـالمعروف والنهى عن المنكر، تستميلوا الناس
أخـذ ابـن سـبــأ يـتنـقــل بـهذا التدبير الشيطـانـى بين الأقـاليم من البـصرة إلى الكـوفــة إلى الشــام إلى مـصر، يـبث أفـكـاره وسمومه، وكـانت خطته بـالغـة الإحكـام، جعـلت أتبـاعه ينجحون فى زرع الشكوك فـى نفوس الصحـابة فى المدينة، مثل على بن أبى طــالب، و الزبـير بـن العـوام، و طــلحــة بـن عـبيد الله، والسيدة عـائشـة - رضـى الله عنهـا - وهـؤلاء كـلهم كـانت تصـلهم معلومات كــاذبــة عـن ظــلم ولاة الأقـاليم، لكنهم صدقوهـا للأسف، ولم يتبينوا كـذبهـا إلا بعد فوات الأوان، و بعد أن وقعت الواقعـة، وقتـل الخـليفـة الثالث مظلومًا
موقف عثمان من الفتنة
لمــا سـمع عـثمـان بن عفـان مـا يقـال عن ولاة أقـاليمه جمع أهـل المدينـة، وقـال لهم: أشيروا عـلى، فـأشاروا عليه أن يرسل رجالا إلى الأقـاليم للتحقيق فيمـا وصله من كلام عنهم، كما كان يفعل عمر بن الخطـاب، فاستجاب على الفور، وحدد أربعة من الصحابة من غير بنـى أميـة - حتـى لا يتهمهم أحد بـالتحيز للولاة - للقيـام بما كلفهم به، فـأرسـل محمد بن مسـلمـة إلى الكوفـة، وأسـامة بن زيد إلى البـصرة، وعـبد الله بن عمر إلى الشـام، وعمـار بن يـاسر إلى مـصر، وعــاد الثــلاثــة الأول إلى المـدينـة، وقدموا تقـارير للخـليفـة بـأن الأمور تجرى عـلى خير وجه، وأن الشكاوى التى تصل إلى المدينـة كـلهـا بـاطـلة، ولا أسـاس لهـا من الصحـة؛ وأن الولاة يقومون بعمـلهم خير قيـام، أما عمار بن ياسر فلم يعد من مصر، لأنـه لمــا وصــل إليهـا، تصـادف وجود ابن سبـأ فيهـا، فـاستقطبه للأسف وضمه إلى صفه، مما جعل الأمر يستفحل ويزداد خطرًا
وبعد أن تبين بطـلان مزاعم أتبـاع ابن سبأ، الذين ألبوا الناس على عـثمــان - وكــلهـم عرب مسـلمون- لان لهم الخـليفـة، وعطف عـليهم وحاول استرضاءهم بدلا من عقابهم وأخذهم بالشدة
ولمـا تهيـأ الجو، ورأى زعمـاء الفتنـة أن الفرصـة سـانحة للتخلص من الخــليـفــة، خـرجـوا إلى المـديـنــة عــلى رأس وفود أهـل مصر و البصرة و الكوفـة، وكـانوا نحو عشرة آلاف متظـاهرين بالحج، مخفين نيـاتهم الخبيثـة عن عـامـة النـاس، الذين شكوا إلى الخليفة من تـصرفــات لولاتهم لا يرضونهـا، فوعدهم خيرًا، وأمرهم بـالعودة إلى
أمصـارهم، فرضوا لمـا رأوه من سمـاحته وعطفه، وعادوا. أما زعماء الفتنـة من أمثـال: الأشتر النخعى، و عمرو بن الأصم، و حرقوص بن زهير السعدى، و الغـافقـى بن حرب، فقد سـاءهم عودة عامة النـاس الذين لا عـلم لهم بـالمـؤامرة، وسُقِطَ فـى أيديهم، وعزموا على قتـل الخـليفـة أو عزله، فتخلفوا فى المدينة، وزوَّروا كتابًا، ادعوا كذبًا أنهم وجدوه مع غـلام من غـلمـان عثمان، موجه إلى عبد الله بن سعد والى مصر يأمره فيه بقتل بعض الثائرين وتعذيب بعضهم الآخر
عـاد الثـائرون من الطريق بهذا الكتـاب، فعرضوه على على بن أبى طــالب، فــأدرك أنـه مـزور، لأن الذيـن ادعـوا أنهم وجدوه هم أهـل مصر، ولكنهم عندمـا عادوا عادوا جميعًا، أهل مصر والكوفة والبـصرة، مـع أن طرقهم مختـلفـة، فعودتهم فـى وقت واحد، تدل عـلى أن الأمر مدبر، فقـال لهم عـلى: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهــل البـصرة بمـا لقـى أهـل مصر وطريقكم مختـلف وقد سرتم عـلى مراحل ؟! هذا والله أمر أبرم بالمدينة
ولما علموا أن أمرهم قد ظهر، وخطتهم انكشفت، قالوا لعلى: ضـعوه حيث شئتم - أى الكتـاب مصممين عـلى كذبهم - لاحـاجـة بنـا إلى هـذا الرجــل، ليـعتزلنـا، ولا شك أن هذا تسـليم منهم بـأن قصـة الكتـاب مختـلقة، وأن غرضهم الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين أو سفك دمه، الذى عصمه الله بشريعة الإسلام
محاصرة بيت الخليفة وقتله
تـشبـث الأشـرار بـهذا الكـتــاب المزور، ولم يستجيبوا لنصح الصحـابـة بالرجوع إلى بلادهم؛ لأن الخليفة لم يرتكب خطأ يستحق عليه العقاب، فحـاصروه فى بيته، ولم تكن هناك قوة تدافع عنه، فقد رفض عرضًا مـن معـاويـة بن أبـى سفيـان بـالذهـاب معه إلى الشـام، وكره أن يغـادر جوار رسول الله كمـا رفض أن يرسـل معـاويـة إليه جندًا من الشـام لحمـايته، لأنه كره أن يضيق على أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش يضايقهم فى معاشهم
و لما رأى على بن أبى طالب والزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله وغيرهم الحصـار المضروب عـلى بيت الخـليفـة؛ أرسـلوا أبناءهم لحراسته، لكنه رفض ذلك أيضًا، وأقسم عـليهم بمـا له من حق الطـاعة عــليهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويغمدوا سيوفهم، لأنه أدرك أن أبنـاء الصـحـابـة وهم عدد قـليـل، إن تصدوا لهـؤلاء الأشرار - وكـانوا زهـاء عـشرة آلاف - فـقد يـقتـلونهم جميعًا، فـآثر سـلامتهم وحقن دمـاءهم، ولعـله كـان يفكر أن الثوار إذا قتـلوه هو فستنتهـى المشكلة، فرأى أن يـضحــى بـنفـسه، حـقنًا للدمــاء، ولم يـدر أن دمـه الطــاهـر الذى سيُسفك، كـان مقدمـة لبحور من دماء المسلمين، سالت بعد ذلك نتيجة مقتله
امتثـل أبنـاء الصحابة لأمره، وعادوا إلى بيوتهم، لكنه طلب منهم ماء للشـرب، بـعد أن مـنعـه الثوار عنه، وهو الذى اشترى للمسـلمين بئر رومـة ووهبها لهم، بناء على طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الذى بشره بنهر عظيم فى الجنة. وكــانـت أم المــؤمـنيـن أم حـبيبـة بنت أبـى سفيـان أول المغيثين لعـثمــان، لكـنهـا لم تستطع أن توصـل المـاء إليه لأن الثوار منعوهـا، وأساءوا معها الأدب وسبوها، ولم يراعوا لها حرمة
فـلمـا فعـلوا بأم حبيبة ذلك، ذهب إليهم على بن أبى طالب - رضى الله عنهم - وقال لهم: إن الذى تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكــافرين، ل اتقطعوا عن الرجـل المـادة الطعـام والشراب فـإن الروم و فــارس لتــأسـر فـتطـعم و تـسقــى، و مـا تعرض لكم هذا الرجـل، فبم تـستـحـلون حصره وقتـله ؟! قـالوا: لا والله ولا نعمـة عين - يعنـى ولا قطرة ماء تصله - لا نتركه يأكل ويشرب
وبـعد ذلك اقـتحـموا عــلى الخــليفـة داره اقتحـامًا، متسـلقين من دور مجـاورة، وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن، وروعوا الأمة الإسلامية فى إمـامهـا، الذى كـانت تستحى منه الملائكة، والذى بشره النبي صلى الله عـليه وسـلم بـالجنـة، وتنبـأ له بـالشهادة، وكان استشهاده فى أواخر شهر ذى الحجة سنة 35هـ
قُتِل عثمـان بن عفان مظلومًا لم يرتكب ذنبًا أو يقترف جرمًا يستحق به أن يرفع هـؤلاء الأشرار أصواتهم عـليه ولو كان كل ما رموه به من تُهم صحيحًا - مع أنه بـاطـل ومـلفق - مـا أبـاح لهم قتـله، ولكنه الحقد الأسـود و الأفـكــار الهـدامــة، التـى زرعهـا ابن سبـأ فـى نفوسهم وعقولهم، جعلهم يرون فضائله وإنجازاته تهمًا وجرائم، فاتهموه -مثلا - بـأنه تخـلف عن بيعـة الرضوان فـى الحديبية، مع أنهم يعلمون أنه عندئذٍ كان فى مكة سفيرًا للرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بمهمـة اعتذر عنهـا عمر بن الخطـاب لخطورتهـا، وناب النبي صلى الله عــليـه وسـلم نفسه عن عثمـان فـى البيعـة، فكـانت بيعـة عن عثمـان أفضل من بيعة الصحابة لأنفسهم، كما اعتبروا جمعه للقرآن فــى مـصحف واحد جريمـة، مع أنه أعظم أعمـاله بـاعتراف الصحـابـة أنفسهم
وقد وصف أبو بكر بن العربى قتلة عثمان وصفًا صادقًا، فقال: وأمثـل مـا روى فى قصته - أى عثمان - أنه بالقضاء السابق، تألب عــليه قوم لأحقـاد اعتقدوهـا، ممن طـلب أمرًا فـلم يصـل إليه،أو حسد حسـادة أظهر داءهـا، و حمله على ذلك قلة دين، وضعف يقين، وإيثار العـاجـلة عـلى الآجلة، وإذا نظرت إليهم دلك صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم، و بطلان أمرهم
وقـد لا يـصدق بـعض النــاس أن رجــلا واحـدًا هـو عـبد الله بن سبـأ يستطيع أن يفسد أمر أمـة بكـاملها، مهما تبلغ قدراته، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إنكـار وجوده أصـلا، ولكن الواقع أن ابن سبـأ كـان موجودًا ووجوده حقيقـة، وهو كـأى متآمر خبيث يتمتع بقدر كبير من الدهـاء و المكر، مكنه من أن يستميـل إلى صفه صحـابيين جليلين هما أبو ذر الغفارى و عمار بن ياسر، وأن يستغل كل الساخطين من أبنـاء العرب الطـامعين فـى الوظـائف، بـالإضـافـة إلى الحـاقدين من أبنـاء البـلاد المفتوحـة، الذين سقطت دولهم، وبـادت عروشهم، وخلق من ذلك كـله تيارًا عامًّا، أدى إلى فتنة عارمة، ذهب ضحيتها عثمان بن عفان، ولم تنته بعد موته
الإثنين نوفمبر 21, 2016 3:30 pm من طرف الربيع
» سونيت 95....وليم شكسبير
الخميس ديسمبر 10, 2015 6:51 am من طرف الربيع
» كيف تزيد خشوعك في الصلاة؟
الإثنين أكتوبر 19, 2015 2:38 pm من طرف semal4
» حزن المؤمن ...
الجمعة أغسطس 22, 2014 11:10 pm من طرف الربيع
» ارجوك تنساني { احلام }
السبت مارس 15, 2014 8:32 am من طرف لمار
» المكالمة .... هشام الجخ ♥
الخميس مارس 13, 2014 9:54 am من طرف الربيع
» الليل ياليلى " وديع الصافي "
الثلاثاء فبراير 11, 2014 1:59 am من طرف لمار
» جمعة مباركه ان شاء الله
الإثنين فبراير 10, 2014 2:03 pm من طرف لمار
» (((((((مجرد وقت )))))
الأحد فبراير 09, 2014 11:13 pm من طرف لمار