يوسف ضمرة - بصدور الأعمال القصصية الكاملة للكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز، نتمكن من قراءة هذا المبدع الكبير مرة أخرى، ثانية وثالثة وعاشرة ربما، بدءا من بداياته. فقد اعتدنا قراءة كل ما تتم ترجمته لماركيز، من دون أن نعرف تواريخ تلك الكتابات، وأيها السابق واللاحق. وربما يكون هذا سببا في انحيازنا إلى بعض أعماله دون الأخرى، إضافة إلى أسباب أخرى. فلا يمكن أن نتعامل مع بدايات ماركيز القصصية، كما نتعامل مع فترة نضوجه العظيمة، رغم أن كل ما كتبه جدير بالقراءة.
في الأعمال القصصية الكاملة، نعثر على قصص قصيرة، وأخرى طويلة، بعضها سبق أن قرأناه في كتب مستقلة، وفي غير ترجمة. أي أن الكتاب يضم قصصا وروايات قصيرة مما يدخل في باب "النوفيلا" كما يحلو لبعضهم أن يدعوها، مثل "إيرينديرا الطيبة وجدتها القاسية" و"جنازة الأم العظيمة" و"لا يوجد لصوص في هذه القرية" و"رحلة موفقة سيدي الرئيس". ويلاحظ القارئ أن هذه القصة الطويلة التي أسميناها "نوفيلا" لم تظهر في المجموعة الأولى "عينا كلب أزرق"، لكنها أخذت في الظهور في المجموعات الثلاث اللاحقة ("جنازة الأم الكبيرة"، "القصة الحزينة لإيرينديرا الطيبة وجدتها القاسية"، و"اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة").
وربما كانت هذه الانعطافة جزءا من مسيرة ماركيز الروائية، لئلا نقول إن هذه القصص الطويلة، ربما كانت مشاريع روائية لم يقدَّر لها أن تتنفس كل ما يلزمها من أكسجين الرواية. مع توكيدنا أن هذا كله مجرد افتراض، رغم اتكائه على البعد الزمني للنصوص، إضافة إلى استعارة بنية روائية، بعناصرها المتعددة، من أزمنة وشخوص وأمكنة متعددة، من دون إغفال محاكاة العالم الخارجي، وإن كان ذلك في نِسَب متفاوتة.
وقارئ هذه القصص المرتبة زمنيا، يلحظ هذا الاختلاف الذي طرأ على كتابة ماركيز، ويلحظ تغير مفهومه ورؤيته للقصة القصيرة. فبينما نراه في البدايات، يبني قصته على الشخصية الواحدة، ويوجّه اهتمامه إلى المونولوج، أكثر من الحكاية والوقائع والحوار، نجده ينتقل سنة بعد أخرى إلى آفاق أرحب، وإلى بنية سردية مغايرة، من دون أن يتخلى عن الأحلام التي تشكل في كتاباته ركيزة أساسية.
لكنه بعد أن كان يكتفي بالحلم في القصص الأولى، وتداعيات هذا الحلم على النفس الإنسانية، الميالة إلى الخوف والقلق والتطير في الحياة اليومية، نرى هذه التداعيات تدور في دائرة الموت، ما يمكننا من تلمس الفلسفة الوجودية فيها. ولا غرابة في ذلك، حين نعرف أن هذه القصص كُتبت في مرحلة المد الوجودي العالمي بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية. وهي المنطقة التي سوف يغادرها ماركيز لاحقا، ولن يمكث طويلا فيها. لكن هذه الوجودية "المضمرة" ليست هي نفسها وجودية كامو في كتاباته السردية. ثمة افتراق هنا لا بد من الإشارة إليه، وهو أن ماركيز يتكئ على إرث ثقافي جمعي مغاير، مجبول بطفولة الإنسانية، التي تحرص على حماية نفسها في خلال الماورائيات الهائلة.
يتحرك ماركيز في دائرة هذه الطفولة، حيث تختلط المشاعر والأحاسيس، وحيث تكون لكل مفردات الحياة اليومية معان ومدلولات تلتصق بها. وهنا تصبح خفة الكائن وأثيريته أمرا طبيعيا ومقبولا، في الوقت الذي يراه الإنسان الغربي غرائبيا ولا معقولا. وهنا يموت المرء حيا، ويعي موته وما بعد موته، كما يظل محتفظا بذلك الرابط بينه وبين الأحياء. وربما كان الكاتب المكسيكي "خوان رولف" في روايته الشهيرة "بيدرو بارامو" واحدا ممن أثروا في ماركيز وغيره من كتاب أميركا اللاتينية، خصوصا ون ماركيز يعدّه أبا للرواية الأميركية اللاتينية. ويتبدى هذا التأثير قويا في مجموعة ماركيز "عينا كلب أزرق"، وفي قصص محددة، مثل "الإذعان الثالث" و"الضلع الآخر للموت" و"حواء في هرتها" و"نابو الزنجي".
وحين يغادر ماركيز هذه المنطقة، نرى ذلك ينعكس على جملة من عناصر البنية السردية. ففي القصص اللاحقة، أخذ ماركيز يتحرر من سطوة البطل المفرد، ووجد نفسه مضطرا لخلق شخصيات أخرى في القصة الواحدة. وهو أمر يستدعي بالضرورة علاقة موضوعية بين الشخوص المتعددة. وهذه العلاقة تعني وجود "حكاية" لم تكن من قبل قوية أو متماسكة. وهذا أيضا يتطلب حوارا بين الشخوص المتعددة. ونلاحظ أن هذه العناصر كانت من قبل هشة أو غير موجودة. وكانت تتم الاستعاضة عنها بمونولوج داخلي، وتأملات ذاتية، تعتمد اختلاط الأحاسيس، وتتكئ على الأحلام والكوابيس، وعلى ثقافة شعبية راسخة، تساعد الكاتب في لا معقوليته وغرائبيته.
ولا نستطيع القول إن هذه العناصر وحدها هي التي كانت سببا في إطلاق "الواقعية السحرية" على هذا السرد، لأن الاتكاء على الفرد المثقل بالإرث الشعبي، من دون معالجة فنية مميزة، لا يكفي لإطلاق ذلك المصطلح. وإلا لعددنا القصص الشعبية والخرافات في أنحاء العالم كله سردا واقعيا سحريا.
سوف يتحرك ماركيز إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، وسوف يبدأ في انتقاء ما يلزمه من ذلك الإرث، ومزجه بعناية كيميائي خبير، بسرده المتخيل، المستمد من الواقع الموضوعي لشعبه ومجتمعه. فبينما غاب الواقع في القصص الأولى، وحضرت الماورائيات في خلال مشاعر مضطربة ومتداخلة، نجد الواقع حاضرا بجلاله في القصص اللاحقة، من دون عزله عن الإرث الشعبي بكل مفرداته السحرية. فهنا يحضر الحب والخبز والجنس والقتل والفقر والبؤس والمعاناة البشرية الهائلة، وطقوس الحياة اليومية، لكنه حضور ينم عن كشف قوي عن مكنونات النفس البشرية وهواجسها. هنا يتجلى الضعف وتبرز القوة. وهنا تتم تعرية الكائن البشري، وتمزيق الأقنعة التي يرتديها، لكي نتمكن من رؤية ملامحه الحقيقية من دون رتوش.
المفارقة أن هذا التباين، لا يحتاج أكثر من سنتين أو ثلاث فقط. حيث بدأت ملامحه في التبلور في المجموعة نفسها "عينا كلب أزرق"، وفي قصة "السيدة التي تصل في السادسة".
كان التغير الذي طرأ على قصص ماركيز شاملا. فحين كان البطل المفرد والوحيد هو الشخصية القصصية المأزومة، والمتعلقة بحلم أو كابوس أو فكرة غريبة، كان السرد منسجما مع تلك الحال، منذ بداية القصة. وكانت اللغة تتشكل غالبا في أنساق شعرية، تنسجم مع الحلم والكابوس والماورائيات، حيث غياب الحكاية أو هشاشتها، ما يعني حكما غياب السرد ولغته. والاكتفاء باللغة التأملية والمتسائلة والمثقفة إن جاز التعبير. بينما نراه في القصص اللاحقة، حيث تبرز الحكاية منذ البداية، يفتتح قصصه بجمل فعلية/حركية. وهو ما لم يكن سابقا. فقد كانت بدايات القصص الأوائل، تتخذ من معاناة الفرد وقلقه مفتتحا رئيسا، وكثيرا ما كان هذا القلق وجوديا، فقد كانت بداية القصة عائمة، ويمكن تغييرها أو استبدالها في سهولة ويسر، خصوصا ونحن نقرأ كل هذه الصفات التي كانت تلازم الجملة السردية: "هنالك كان الضجيج مرة أخرى، ذلك الضجيج البارد، القاطع، الراسي، الذي يعرفه جيدا" (قصة "الإذعان الثالث"). وهو ما لن يعود إليه ماركيز لاحقا، حين يبدأ الواقع الموضوعي في الظهور والتشكل قصصيا، بكل ما يحتويه من قهر وظلم وبؤس وضعف وسلوك. وهكذا تأخذ البدايات لاحقا ذلك الطابع الحكائي، الذي يتطلب جملة افتتاحية متحركة، تشي بنية القاص والروائي سرد حكايته: "رجع داماسو مع صياح أول الديكة. كانت زوجته آنا الحامل في الشهر السادس، تنتظره جالسة على السرير" (قصة "لا يوجد لصوص في هذه القرية"). و"خرج القطار من ممر الصخور القرمزية المهتز، وتوغل في مزارع الموز المتناظرة وغير المتناهية" (قصة "قيلولة الثلاثاء").
ولا نحتاج كبير عناء لنكتشف أن البدايات القصصية اللاحقة، تخلصت من عبء اللغة الشعرية، واكتفت بجمالية اللغة السردية، التي تتطلع إلى جذب انتباه القارئ إلى ما سوف يأتي. ونلاحظ أيضا في هذه البدايات السردية، أن الفعل والحركة غالبا ما يكونان خارجيين. وهو ما يعني الابتعاد منذ اللحظة الأولى عن اللغة التأملية، التي لن يكون لها متسع كبير في السرد الحكائي.
وإذا كانت الأحلام والكوابيس مادة أساسية في القصص الأولى، فقد اعتمد ماركيز لاحقا على الخرافة الشعبية. ولكن مقدرته السردية، مكّنته من جذب القارئ إلى عالمه السحري. وهو عالمنا أيضا، حين نتذكر جيدا أن هنالك ملايين البشر الذين يفكرون بالطريقة التي بفكر بها أبطال ماركيز. ونحن نتحدث هنا عن البؤساء والأميين والمهمشين والفقراء والضعفاء، أولئك الذين يجدون وقتا كبيرا للتفكير في أحوالهم ومصائرهم، والذين يتمكنون في لحظات غامضة من القيام بما لا يمكنهم القيام به سوى مرة واحدة مثيرة وغريبة، كالقتل والانسحاب الموضوعي المفاجئ من العالم الذي هم فيه.
ولأن ماركيز يمتلك مقدرة فائقة على السرد، فإنه يمتلك مقدرة أكبر على الإيهام. فهو يحول الغرائبي إلى أمر طبيعي، يتم التغاضي عنه في النص لصالح الإنسان وجنوحه الغريب والسري الغامض. ففي قصة "القديسة" مثلا، وهي من القصص المتأخرة، لا نتساءل عن مدى صحة العثور على ابنة الرجل بعد موتها، في كامل هيئتها بعد سنوات من دفنها. لكننا نمضي مع الرجل ومعاناته في الوصول إلى البابا لتطويب الفتاة قديسة جديدة، ونستغرب قضاء الرجل عشرين سنة في سعيه من دون كلل أو انعدام أمل. وهو ما يعني تحول اهتمامنا إلى أفكار الأب وأحلامه والغاية منها، سواء أكانت القصة حقيقية أم لم تكن.
في الأعمال القصصية الكاملة، نعثر على قصص قصيرة، وأخرى طويلة، بعضها سبق أن قرأناه في كتب مستقلة، وفي غير ترجمة. أي أن الكتاب يضم قصصا وروايات قصيرة مما يدخل في باب "النوفيلا" كما يحلو لبعضهم أن يدعوها، مثل "إيرينديرا الطيبة وجدتها القاسية" و"جنازة الأم العظيمة" و"لا يوجد لصوص في هذه القرية" و"رحلة موفقة سيدي الرئيس". ويلاحظ القارئ أن هذه القصة الطويلة التي أسميناها "نوفيلا" لم تظهر في المجموعة الأولى "عينا كلب أزرق"، لكنها أخذت في الظهور في المجموعات الثلاث اللاحقة ("جنازة الأم الكبيرة"، "القصة الحزينة لإيرينديرا الطيبة وجدتها القاسية"، و"اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة").
وربما كانت هذه الانعطافة جزءا من مسيرة ماركيز الروائية، لئلا نقول إن هذه القصص الطويلة، ربما كانت مشاريع روائية لم يقدَّر لها أن تتنفس كل ما يلزمها من أكسجين الرواية. مع توكيدنا أن هذا كله مجرد افتراض، رغم اتكائه على البعد الزمني للنصوص، إضافة إلى استعارة بنية روائية، بعناصرها المتعددة، من أزمنة وشخوص وأمكنة متعددة، من دون إغفال محاكاة العالم الخارجي، وإن كان ذلك في نِسَب متفاوتة.
وقارئ هذه القصص المرتبة زمنيا، يلحظ هذا الاختلاف الذي طرأ على كتابة ماركيز، ويلحظ تغير مفهومه ورؤيته للقصة القصيرة. فبينما نراه في البدايات، يبني قصته على الشخصية الواحدة، ويوجّه اهتمامه إلى المونولوج، أكثر من الحكاية والوقائع والحوار، نجده ينتقل سنة بعد أخرى إلى آفاق أرحب، وإلى بنية سردية مغايرة، من دون أن يتخلى عن الأحلام التي تشكل في كتاباته ركيزة أساسية.
لكنه بعد أن كان يكتفي بالحلم في القصص الأولى، وتداعيات هذا الحلم على النفس الإنسانية، الميالة إلى الخوف والقلق والتطير في الحياة اليومية، نرى هذه التداعيات تدور في دائرة الموت، ما يمكننا من تلمس الفلسفة الوجودية فيها. ولا غرابة في ذلك، حين نعرف أن هذه القصص كُتبت في مرحلة المد الوجودي العالمي بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية. وهي المنطقة التي سوف يغادرها ماركيز لاحقا، ولن يمكث طويلا فيها. لكن هذه الوجودية "المضمرة" ليست هي نفسها وجودية كامو في كتاباته السردية. ثمة افتراق هنا لا بد من الإشارة إليه، وهو أن ماركيز يتكئ على إرث ثقافي جمعي مغاير، مجبول بطفولة الإنسانية، التي تحرص على حماية نفسها في خلال الماورائيات الهائلة.
يتحرك ماركيز في دائرة هذه الطفولة، حيث تختلط المشاعر والأحاسيس، وحيث تكون لكل مفردات الحياة اليومية معان ومدلولات تلتصق بها. وهنا تصبح خفة الكائن وأثيريته أمرا طبيعيا ومقبولا، في الوقت الذي يراه الإنسان الغربي غرائبيا ولا معقولا. وهنا يموت المرء حيا، ويعي موته وما بعد موته، كما يظل محتفظا بذلك الرابط بينه وبين الأحياء. وربما كان الكاتب المكسيكي "خوان رولف" في روايته الشهيرة "بيدرو بارامو" واحدا ممن أثروا في ماركيز وغيره من كتاب أميركا اللاتينية، خصوصا ون ماركيز يعدّه أبا للرواية الأميركية اللاتينية. ويتبدى هذا التأثير قويا في مجموعة ماركيز "عينا كلب أزرق"، وفي قصص محددة، مثل "الإذعان الثالث" و"الضلع الآخر للموت" و"حواء في هرتها" و"نابو الزنجي".
وحين يغادر ماركيز هذه المنطقة، نرى ذلك ينعكس على جملة من عناصر البنية السردية. ففي القصص اللاحقة، أخذ ماركيز يتحرر من سطوة البطل المفرد، ووجد نفسه مضطرا لخلق شخصيات أخرى في القصة الواحدة. وهو أمر يستدعي بالضرورة علاقة موضوعية بين الشخوص المتعددة. وهذه العلاقة تعني وجود "حكاية" لم تكن من قبل قوية أو متماسكة. وهذا أيضا يتطلب حوارا بين الشخوص المتعددة. ونلاحظ أن هذه العناصر كانت من قبل هشة أو غير موجودة. وكانت تتم الاستعاضة عنها بمونولوج داخلي، وتأملات ذاتية، تعتمد اختلاط الأحاسيس، وتتكئ على الأحلام والكوابيس، وعلى ثقافة شعبية راسخة، تساعد الكاتب في لا معقوليته وغرائبيته.
ولا نستطيع القول إن هذه العناصر وحدها هي التي كانت سببا في إطلاق "الواقعية السحرية" على هذا السرد، لأن الاتكاء على الفرد المثقل بالإرث الشعبي، من دون معالجة فنية مميزة، لا يكفي لإطلاق ذلك المصطلح. وإلا لعددنا القصص الشعبية والخرافات في أنحاء العالم كله سردا واقعيا سحريا.
سوف يتحرك ماركيز إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، وسوف يبدأ في انتقاء ما يلزمه من ذلك الإرث، ومزجه بعناية كيميائي خبير، بسرده المتخيل، المستمد من الواقع الموضوعي لشعبه ومجتمعه. فبينما غاب الواقع في القصص الأولى، وحضرت الماورائيات في خلال مشاعر مضطربة ومتداخلة، نجد الواقع حاضرا بجلاله في القصص اللاحقة، من دون عزله عن الإرث الشعبي بكل مفرداته السحرية. فهنا يحضر الحب والخبز والجنس والقتل والفقر والبؤس والمعاناة البشرية الهائلة، وطقوس الحياة اليومية، لكنه حضور ينم عن كشف قوي عن مكنونات النفس البشرية وهواجسها. هنا يتجلى الضعف وتبرز القوة. وهنا تتم تعرية الكائن البشري، وتمزيق الأقنعة التي يرتديها، لكي نتمكن من رؤية ملامحه الحقيقية من دون رتوش.
المفارقة أن هذا التباين، لا يحتاج أكثر من سنتين أو ثلاث فقط. حيث بدأت ملامحه في التبلور في المجموعة نفسها "عينا كلب أزرق"، وفي قصة "السيدة التي تصل في السادسة".
كان التغير الذي طرأ على قصص ماركيز شاملا. فحين كان البطل المفرد والوحيد هو الشخصية القصصية المأزومة، والمتعلقة بحلم أو كابوس أو فكرة غريبة، كان السرد منسجما مع تلك الحال، منذ بداية القصة. وكانت اللغة تتشكل غالبا في أنساق شعرية، تنسجم مع الحلم والكابوس والماورائيات، حيث غياب الحكاية أو هشاشتها، ما يعني حكما غياب السرد ولغته. والاكتفاء باللغة التأملية والمتسائلة والمثقفة إن جاز التعبير. بينما نراه في القصص اللاحقة، حيث تبرز الحكاية منذ البداية، يفتتح قصصه بجمل فعلية/حركية. وهو ما لم يكن سابقا. فقد كانت بدايات القصص الأوائل، تتخذ من معاناة الفرد وقلقه مفتتحا رئيسا، وكثيرا ما كان هذا القلق وجوديا، فقد كانت بداية القصة عائمة، ويمكن تغييرها أو استبدالها في سهولة ويسر، خصوصا ونحن نقرأ كل هذه الصفات التي كانت تلازم الجملة السردية: "هنالك كان الضجيج مرة أخرى، ذلك الضجيج البارد، القاطع، الراسي، الذي يعرفه جيدا" (قصة "الإذعان الثالث"). وهو ما لن يعود إليه ماركيز لاحقا، حين يبدأ الواقع الموضوعي في الظهور والتشكل قصصيا، بكل ما يحتويه من قهر وظلم وبؤس وضعف وسلوك. وهكذا تأخذ البدايات لاحقا ذلك الطابع الحكائي، الذي يتطلب جملة افتتاحية متحركة، تشي بنية القاص والروائي سرد حكايته: "رجع داماسو مع صياح أول الديكة. كانت زوجته آنا الحامل في الشهر السادس، تنتظره جالسة على السرير" (قصة "لا يوجد لصوص في هذه القرية"). و"خرج القطار من ممر الصخور القرمزية المهتز، وتوغل في مزارع الموز المتناظرة وغير المتناهية" (قصة "قيلولة الثلاثاء").
ولا نحتاج كبير عناء لنكتشف أن البدايات القصصية اللاحقة، تخلصت من عبء اللغة الشعرية، واكتفت بجمالية اللغة السردية، التي تتطلع إلى جذب انتباه القارئ إلى ما سوف يأتي. ونلاحظ أيضا في هذه البدايات السردية، أن الفعل والحركة غالبا ما يكونان خارجيين. وهو ما يعني الابتعاد منذ اللحظة الأولى عن اللغة التأملية، التي لن يكون لها متسع كبير في السرد الحكائي.
وإذا كانت الأحلام والكوابيس مادة أساسية في القصص الأولى، فقد اعتمد ماركيز لاحقا على الخرافة الشعبية. ولكن مقدرته السردية، مكّنته من جذب القارئ إلى عالمه السحري. وهو عالمنا أيضا، حين نتذكر جيدا أن هنالك ملايين البشر الذين يفكرون بالطريقة التي بفكر بها أبطال ماركيز. ونحن نتحدث هنا عن البؤساء والأميين والمهمشين والفقراء والضعفاء، أولئك الذين يجدون وقتا كبيرا للتفكير في أحوالهم ومصائرهم، والذين يتمكنون في لحظات غامضة من القيام بما لا يمكنهم القيام به سوى مرة واحدة مثيرة وغريبة، كالقتل والانسحاب الموضوعي المفاجئ من العالم الذي هم فيه.
ولأن ماركيز يمتلك مقدرة فائقة على السرد، فإنه يمتلك مقدرة أكبر على الإيهام. فهو يحول الغرائبي إلى أمر طبيعي، يتم التغاضي عنه في النص لصالح الإنسان وجنوحه الغريب والسري الغامض. ففي قصة "القديسة" مثلا، وهي من القصص المتأخرة، لا نتساءل عن مدى صحة العثور على ابنة الرجل بعد موتها، في كامل هيئتها بعد سنوات من دفنها. لكننا نمضي مع الرجل ومعاناته في الوصول إلى البابا لتطويب الفتاة قديسة جديدة، ونستغرب قضاء الرجل عشرين سنة في سعيه من دون كلل أو انعدام أمل. وهو ما يعني تحول اهتمامنا إلى أفكار الأب وأحلامه والغاية منها، سواء أكانت القصة حقيقية أم لم تكن.
الإثنين نوفمبر 21, 2016 3:30 pm من طرف الربيع
» سونيت 95....وليم شكسبير
الخميس ديسمبر 10, 2015 6:51 am من طرف الربيع
» كيف تزيد خشوعك في الصلاة؟
الإثنين أكتوبر 19, 2015 2:38 pm من طرف semal4
» حزن المؤمن ...
الجمعة أغسطس 22, 2014 11:10 pm من طرف الربيع
» ارجوك تنساني { احلام }
السبت مارس 15, 2014 8:32 am من طرف لمار
» المكالمة .... هشام الجخ ♥
الخميس مارس 13, 2014 9:54 am من طرف الربيع
» الليل ياليلى " وديع الصافي "
الثلاثاء فبراير 11, 2014 1:59 am من طرف لمار
» جمعة مباركه ان شاء الله
الإثنين فبراير 10, 2014 2:03 pm من طرف لمار
» (((((((مجرد وقت )))))
الأحد فبراير 09, 2014 11:13 pm من طرف لمار